يجد الكاتب صعوبةً بالغةً في توصيف شخصية امير المؤمنين، عليه السلام، وتتشعب هذه الصعوبة في الاحاطة بالسيرة العلمية لهذه الشخصية العظيمة التي خلفت رسول الله، صلى الله عليه وآله، ولكن ما يدفعنا للمغامرة في الكتابة عنه، عليه السلام، هو الحب الذي يسكن قلوبنا، وهو القائل: “لو أحبني جبل لتهافت”، (من حِكَمه في نهج البلاغة ينعى فيها أحد ابرز المقربين اليه؛ سهل بين حنيف الانصاري)، فكيف بنا ونحن نملك قلوباً انسانية ضعيفة قبال هذا الجبل الشامخ.
هذا الحب لم يأت من فراغ. فقد أخذ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بيد الإمام علي، عليه السلام، وقال له أرفعها إلى السماء وأسأل ربك يعطيك شيئاً، فرفع الإمام يده وقال: “اللهم أجعل لي عندك ودا”، فنزلت الآية الكريمة: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. والإمام علي، عليه السلام، لايحتاج إلى تعريف، فهو صفحة رائعة من الأشراق الإنساني، تضيف شرفاً إلى تاريخ الإنسانية. وثروة علمية لاتحد بحدود، إذ إتسم فكره بالأستقامة والواقعية التي كونت له رصيداً من الألق والثراء، لم نجده في غيره بالرغم مما يمتلكونه من هالة القدسية والعظمة في نفوس المسلمين جميعا .
- المواطنة بين الفكر السياسي و دولة أمير المؤمنين
تُطرح اليوم في أدبيات الفكر السياسي والقانوني فكرة المواطنة والوطنية والانتماء للدولة والبعض ذهب بها بعيدا وجعلها مقدمة على العقيدة والدين متأثرا بالفكر الفلسفي الغربي والاحداث التي تمر بها دول العالم، و آثار العِرق القومي الذي أثر في بناء الدول الحديثة .
ولكن كيف يرى امير المؤمنين علي ابن ابي طالب، عليه السلام، هذه الفكرة في دولته الاسلامية التي اسسها بعد احداث الخلافة الاولى والثانية والثالثة التي غيّرت من سلوكيات المسلمين وما تربوا عليه في عهد الرسول الاكرم.
🔺 مَن يراجع أدبيات فكر المواطنة وبناء الدولة عند أمير المؤمنين، عليه السلام، فسيجد توسُّعاً في الحديث عن قيم ومبادئ حقوق الإنسان كقاعدة لبناء الإنسان المسلم المؤمن
مَن يراجع أدبيات فكر المواطنة وبناء الدولة عند أمير المؤمنين، عليه السلام، فسيجد توسُّعاً في الحديث عن قيم ومبادئ حقوق الإنسان كقاعدة لبناء الإنسان المسلم المؤمن، وبالتالي بناء الدولة العادلة القوية؛ فلا دولة قوية من دون أفراد أقوياء، ولا دولة عادلة من دون أفراد عادلين مع أنفسهم ومع من حولهم وكانَ التركيزُ في مواعظِ الإمام ومجمل كلماته وخطبه ومواقفه على حقي العدل والمساواة.
كما ركّز امير المؤمنين، عليه السلام، الى السعي نحو تحقيق الأمن والأمان الاجتماعي والسياسي في الدولة، وتمكينها اقتصادياً وتنموياً وحقوقياً، بما قد يمنع نشوب الصراعات والفتن والعداوات بين أبنائها وأهلها ومختلف مكوناتها المتعددة والمختلفة.
لأن هذا الثبات والاستقرار القائم على العدل والحقوق عموماً، هو الذي يمنع دخولَ الأعداء من ثغرات المجتمع وأمراضه الداخلية كالظلم والحرمان واللا مساواة وغيرها، يقول الإمام علي، عليه السلام: “ثَبَاتُ الدُّوَلِ بِإِقَامَةِ سُنَنِ الْعَدْلِ” والعدل لا يتقوى في حركة الدولة والمجتمع إلا بتوافر حكام ومسؤولين إداريين من ذوي الأخلاق والفضيلة والتقوى ممن أسّسوا بنيانهم النفسي على العدالة مع أنفسهم كشرط للعدالة مع الخارج، وبالتالي زرع روح المواطنة من خلال العدل والمساواة .
- المساواة و حبّ الوطن
وقد اهتم أمير المؤمنين، عليه السلام، بالمساواة بشكل خاص وأعادَ الاعتبار إليها خلال فترة حكمه بعد أن استُهين بها وضيعت في فترات سابقة لحكمه، وانطلقَ، عليه السلام، في تطبيق قيمة المساواة من خلال دعوته إلى ضرورة:
- المساواة في الحقوق والواجبات.
- المساواة في العطاء.
- المساواة أمام القانون.
وقد ألزم أمير المؤمنين علي، عليه السلام، قادته وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم وانتماءاتهم وخلفياتهم العقائدية والسياسية دونما تحيّز أو تمييز حزبي أو سياسي أو اجتماعي، حتى لو كانوا معارضين لحكمه ودولته، طالما لم يحملوا السلاح في وجه الدولة بهدفِ إسقاطها بالقوة والعنف، وقد عامل الجميع كرعايا (مواطنين) في دولة الحق والعدل والمساواة، يقول، عليه السلام، في بعض رسائله إلى عامله مالك الأشتر (وسميت بعهد مالك): “واخْفضْ للرعيّة جناحَك، وابْسطْ لهم وجهَك، وأَلِنْ لهُم جنابَك، وآسِ بينهم في اللحظةِ والنّظرة، والإشارةِ والتّحية، حتى لا يطمعُ العظماءُ في حيفك، ولا ييأسُ الضعفاءُ من عَدلك”.
وبهذا فإن امير المؤمنين، عليه السلام، ركّز على البُعد الاجتماعي لزرع الوطنية والمواطنة في دولته، لان المضمون الاجتماعي والاقتصادي للوطنية هو العدالة الاجتماعية، بينما التفاوت الهائل في الملكية والثروات يخلق الكثير من السلبيات، منها:
- ضعف الحس الوطني.
- الانحطاط الخلقي.
- تفشي الجريمة والمخدرات والأمراض الفتاكة.
أدرك المصلحون وعلماء الاجتماع مؤخراً خطورة تلك السلبيات فوضعوا لعلاجها الكثير من النظريات، وأثبتت التجارب سلامة وقوة المجتمع الذي يعيش مواطنوه متضامنين متكافلين، ينعمون بخيرات بلدهم بمعني أنه بقدر ما يكفله الوطن لمواطنيه من حقوق مادية وروحية تيسّر لهم أمورهم الحياتية بقدر ما يزداد حبهم لوطنهم، وبهذا فقد اكتسبت الوطنية مضموماً اجتماعياً واقتصادياً، وعن هذا المعنى عبرت كلمات أمير المؤمنين، عليه السلام، الجامعة، ومنها: “ان الغني في الغربة وطن، و”الفقر في الوطن غربة”. “وان المقل غريب في بلدته”. و “احذروا صولة الكريم اذا جاع، واللئيم اذا شبع” لان “الفقر يُخرس الفطين عن حجته”.
🔺 ألزم أمير المؤمنين علي، عليه السلام، قادته وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم وانتماءاتهم وخلفياتهم العقائدية والسياسية دونما تحيّز أو تمييز حزبي أو سياسي أو اجتماعي
كما ربط الامام علي ع الوطنية والمواطنة بـ ( الحاكم القدوة)، فهو الساعي في تركيز العدالة الاجتماعية بآرائه وأدبه وسياسته، وبكل موقف له، ومن ذلك: أن الحاكم العادل هو الذي يكون قدوة للمحكومين، فما هو مباح له مباح لرعيته، وما هو حرام عليه حرام علي رعيته، ولا يعفيه مركزه من مخالفة القوانين، بل يجب أن يكون السابق الي تنفيذها.
وبهذا زرع الامام علي، عليه السلام، روح المواطنة والوطنية وحب الوطن عن طريق سلوكياته واصلاحاته الاجتماعية ونبذ الفوارق الطبقية، والاهم هو جعل الناس عبادا لله ــ سبحانه وتعالى ــ فجعل الدين اساسا لحياة الانسان واساسا لدولته واساسا لكل افعاله وافعال رعيته ، فلا وطنية ومواطنة بلادين وعبادة يرتضيها الله سبحانه وتعالى للأنسان.