قال الإمام زين العابدين، عليه السلام:
“الهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً الى عفوك، الهي إن كان قبُح الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك”.
قال -تعالى-: {ولله الحجة البالغة}
لم يدَع الله -عزوجل- مجالا للتبرير، شرع باب العودة اليه بحيث يسع الباب جميع البشر؛ سواء ارتكب ذنباً صغيراً أم اقترف كبيرة من المعاصي، فالمجال مفتوح للانسان للعودة الى حضيرة الايمان، والى قدس الطهارة.
الشيطان يوسوس للانسان فيبعده عن قيم السماء، ويجعله يتجرأ على الرب، لكن مع ذلك فالله –تعالى- لا يطرد احدا عن ساحته.
⭐ ثقافة التوبة لا تُعنى الفرد نفسه فقط، بل عليه ان يسعى لنصح الآخرين و إرشادهم الى الطريق الصحيح
الأب قد يتحمل ابنه لفترة ثم يضيق به ذرعاً، و ربما يطرده من البيت، وهكذا الأم قد تتحمل طفلها، وقد يصل بها الحال الى تركه جانباً، فلا تلتف اليه، وهكذا الرئيس في عمله؛ قد يتحمل العامل لمدة ثم يسلمه قرار الفصل من العمل.
أما الله -سبحانه وتعالى- بعكس كل ذلك؛ فقد فتح باباً ليبدأ الانسان صفحة جديدة مهما عظمت ذنوبه، لذا بإمكان كل إنسان أن يقرر من خلال لحظته أن يبدأ صفحة جديدة ناصعة البياض، فيمحو كل ماضيه الأسود، وهذا لن يحدث إلا بقرار من الانسان نفسه، لان الله -تعالى- أوكل الأمر اليه (الانسان)، ولم يؤصد الباب في وجهه، على الرغم من إلحاد الانسان بالله وكفره، و تجرؤه على اقتحام الذنوب الكبيرة، فضلا عن المعاصي الصغيرة.
قد يرتكب الانسان ذنبا ويتصوّر أن الله لن يغفر له، لكن الله قرّر في تشريعاته ان الذنوب كلها مغفورة، قال –تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}، فأيّ ذنب يرتكبه الانسان في الدنيا ثم يتوب الى الله، فإن الباري يغفر جميع الذنوب، لان باب العفو والمغفرة مشرعٌ لاحتضان الانسان.
وحينما يرتكب الانسان ذنبا في المجتمع تبقى عليه وصمة في جبينه طوال حياته، وبعد الموت يُعيّر بتلك الوصمة، وهذا في الموازين البشرية، لكن عند الله -تعالى- تختلف الأمور تماما، فإن تاب الانسان تاب الله عليه، والوصمة السوداء للذنب تمحى عن الفرد، لان رحمة الله ما بعدها رحمة، ولذا نقرأ في الدعاء: “فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ”؟ حقاً؛ لنتصور ان الله لم يفتح باباً للتوبة، فبمن يلوذ الانسان بعد أن اثقلت المعاصي ظهره؟ و من الذي يمحوها؟ ومن ينقذنا من النار؟
إنه –تعالى- هو أرحم الراحمين، فتح باب التوبة للرجوع اليه، و قيمة الانسان تكمن في رجوعه الى الله، وإلا فلا قيمة له بدون ذلك، قال –تعالى-: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ}، فما هي قيمة الانسان إذا تجرأ على الله وعصاه ولم يعد إليه؟ فإذا كان هناك عبد آبق، فهل يستفيد منه مولاه؟ فهو اشتراه ليطيعه ولينجز له عملا لا ليعاند مولاه.
طاعة الانسان لله يُثاب عليها، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}، فالله يحسن الينا بتوفيقنا للهدى الذي جزاؤه الجنّة، وقد فتح الباري باباً للتوبة، وما على الانسان إلا أن يدخل فيه بدون تسويف، فلماذا يؤجل الفرد توبته ما دام باب الله مفتوحا؟
“الهي أنت الذي فتحت باباً الى عفوك سميته التوبة”
و لان الانسان هو يذنب بنفسه، فان تصليح الخطأ يقع عليه، ليُمحي بنفسه ذنوبه التي اقترفها، ويكون ذلك بالدخول من باب الله الذي فتحه لعباده المذنبين، ومن مميزات هذا الباب انه مفتوح طوال عمر الانسان، بل ومفتوح على مدار الساعة، لكن من يسوّف التوبة، ينحرف ويبتعد عن دخول الباب الإلهي.
لابد أن يقرر الانسان قراراً شجاعاً ولا يبقَ ضعيفا أمام الأهواء والشهوات، لان التسويف له مدخلية كبيرة في ضعف إرادة الانسان، “سأقرأ القرآن بعد سنة”،
سأصلي جماعة في شهر رمضان”!
لذا على الانسان ان يغتنم الفرصة التي تتاح له للعودة الى الله، فلابد أن يفتح قلبه للمواعظ ويتأثر بها، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “اغتنموا فرص الخير فإنها تمر مرَّ السحاب”، والبعض نتيجة لغروره لا يجلس في مجالس الذكر والموعظة، ويرى نفسه أكبر من الموعظة والمجلس، بل قد يصل الحال بالبعض ان يجعل نفسه أكبر من القرآن الكريم!
والتوبة الى الله والعودة اليه إعلانٌ للانتصار على الاهواء والشهوات؛ والعودة تتمثل في الالتزام بالقيم الالهية، والرجوع الى العقل، والحق، والطهارة والى جميع القيم والمبادئ الحقة، والعودة الى جميع ذلك كله يجعل الانسان قويا ويكون بذلك صلاحه، فالانسان الذي تحفه الطهارة أفضل بكثير من آخر تحيط به الدناسة، وإن يحصل الفرد على الحرية خير له من أن يبقى أسير الاهواء والشهوات.
⭐ على الانسان ان يغتنم الفرصة التي تتاح له للعودة الى الله، فلابد أن يفتح قلبه للمواعظ ويتأثر بها، بيد أن البعض نتيجة لغروره لا يجلس في مجالس الذكر والموعظة، ويرى نفسه أكبر من هذه المجالس
“و قلت توبوا الى الله توبةً نصوحا”
التوبة النصوح إذا تحققت فإن الانسان لا يرجع الى ما كان عليه من قبل، فالتوبة النصوح تجعل صاحبها، ذا قرار شجاع، وإرادة صلبة، وسيطرة محكمة على النفس.
“فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه”
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
لابد أن تكون عندنا ثقافة التوبة كجزء اساسي في حركاتنا وسلوكياتنا، فيراقب الانسان نفسه، فإذا ما ارتكب ذنباً عليه العودة اليه بشكل سريع وبدون تردد.
وثقافة التوبة لا تُعنى الفرد نفسه فقط، بل عليه ان يسعى لنصح الآخرين و إرشادهم الى الطريق الصحيح، مثلاً؛ البعض لديهم نفور من الدِين بسبب سلوكيات البعض، فيقطع علاقته مع الله! أمثال هؤلاء يجب ربطهم بالله الرحيم، فإذا حصل أن ارتكب البعض عملاً شوّه به دين الله، فلا يصح للآخرين ان يقطعوا علاقتهم مع الله بسبب ذلك العمل، فمن يرتكب سلوكاً مشيناً، وإن كان متديناً، أو حتى عالم دين، فليس ذلك مبررا لترك الدِين وقطع العلاقة مع الله -سبحانه وتعالى-.
- (مقتبس من محاضرة لآية الله الشهيد نمر باقر النمر)