عبس النبي، و تولّى أن جاءه الاعمى، ألا تعلم بانه يتزكى، لماذا تحْرمه من أن يذّكر؟ و ربما نفعته الذكرى، ولايحق لك ان تتلهّى، إلا لمن استغنى عن الهدى، كلا؛ ان مافعلته كان سيئاً!
هل يُعقل ان الخطاب الذي ورد في سورة “عبس”، وفي معظمه ذم وتنكيل وتقريع متوجه من الله ــ سبحانه وتعالى ــ موجهٌ الى نبيه الكريم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم؟
اذا قلنا بأن هذا الشيء ممكن، فنحن سنعترف بوجود التناقض في القرآن الكريم، لانه –عزوجل ــ وفي مكان آخر من القرآن الكريم يخاطب نبيه ويقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}.(سورة القلم: آية :4).
ولو قال لك شخصٌ؛ أن زيداً على خُلق، وبعد ذلك يورد شيئاً من سيرته يُظهره فيها بأنه سيئ الخلق، ستقول في نفسك ان هذا المتحدث كاذب، و ان زيداً ليس كما يصورونه بانه حسن الاخلاق.
⭐ نعود الى التاريخ ونسأل الناس الذين عاشوا في تلك البرهة الزمنية، وعاشوا اخلاق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، سنجد أن أعداءه من المشركين والكفار كانوا يعرفونه بحسن الخُلق، وكانوا يلقبونه بالصادق الامين
نعود الى التاريخ ونسأل الناس الذين عاشوا في تلك البرهة الزمنية، وعاشوا اخلاق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، سنجد أن أعداءه من المشركين والكفار كانوا يعرفونه بحسن الخُلق، وكانوا يلقبونه بالصادق الامين، فسوء الخُلق الوارد في الآية لا ينطبق على النبي الاكرم بشهادة الكفار والمشركين، والفضل ماشهدت به الاعداء، إذن؛ من هو العابس؟
سورة كاملة باسم “عبس” موضوعها الرئيسي توبيخ اللهُ لشخص على سوء تصرفه وخلقه مع رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو بنظر الاسلام مُقدم على كثير من الناس، فيتعامل معه هذا الشخص بفضاضة وتكبّر وعنجهية، هل يعقل ان يكون هذا الشخص رسول الله؟!
السورة لا تُظهر سوء خلق هذا الشخص العابس المذكور في الآية، بل تكشف جانباً من جهله وعدم فهمه للامور عندما يخاطبه {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}، يعني هذا الشخص المجهول لم يكن يفهم ان الاعمى ربما أتى لكي يتزكّى، {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى}، ولم يكن يكترث لحاله، و ربما كان مؤمنا، فهل يقدم النبي الكفار على المؤمنين؟
إذن؛ لو كان الامر صحيحاً وأن السورة نزلت بحق رسول الله لكان من حق المسيحيين ان يقولوا بأن عيسى افضل من نبيكم لأنه يُبرئ الأكْمَه والابرص ويُحيي الموتى، ونبيكم يَعْبس بوجه الاعمى ويحاول طرده من مجلسه!
المشكلة في بعض المفسرين الذين يأخذون الامور والروايات على عواهنها دون فحص وتدقيق، ومنها الرواية التي اختلقها بنو أمية لتبرئة صاحبهم من توبيخ الله والصاق التهمة برسول الله.
تقول الرواية: “بينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يناجي عُتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدّى لهم كثيرا، ويَعرض عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم، يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ، صلى الله عليه وسلم، آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علّمني مما علَّمك الله، فأعرض عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه وتوّلى، وكره كلامه، و أقبل على الآخرين؛ فلما قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره، ثم خَفَق برأسه، ثم أنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى}، هكذا أورد الطبري الرواية في تفسيره، ونقلها كثير غيره(1).
بالطبع؛ ليس جميع علماء اهل السنة قالوا بنزول سورة عبس، بحق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم الفخر الرازي في كتابه عصمة الانبياء جاء في “الشبهة الثامنة” تمسكوا بقوله تعالى: عبس وتولى أن جاءه الأعمى) فعاتبه على إعراضه عن ابن أم مكتوم، جوابه: “لا نسلم أن هذا الخطاب متوجه إلى النبي، عليه الصلاة والسلام، لا يقال: إن أهل التفسير قالوا: الخطاب مع الرسول، لأنا نقول: هذه رواية الآحاد فلا تقبل في هذه المسألة”(2).
و اما الشيعة، فقد قال السيد المرتضى، علم الهدى، قدس الله روحه: “ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه، وفيها ما يدل على أن المعني بها غيره لأن العبوس ليس من صفات النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مع الأعداء المباينين، فضلاً عن المؤمنين المسترشدين، ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة، ويؤيد هذا القول قوله سبحانه في وصفه، صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم}. (القلم: 4). وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. (آل عمران: 159)، فالظاهر أن قوله {عَبَسَ وَتَوَلَّى} المراد به غيره(3).
وقد روي عن الصادق، عليه السلام، أن السورة نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي، صلى الله عليه وآله سلم، فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك.
هذه القضية التي نحن فيها، والسورة التي نحن بصددها تكشف جانبا من الجرائم العظيمة التي ارتكبها الامويون بحق الاسلام، وبحق رسول الله، الذين اختلقوا الروايات والاحاديث ليشوهوا صورة رسول الله، ويبرؤا آباءهم و اجدادهم من الجرائم التي ارتكبوها والافعال القبيحة التي اقدموا عليها، ولقد اختلق الامويون و زوروا الكثير من الاحاديث والروايات ومن بينها رواية “الاحتفال في يوم عاشوراء”.
والمسلم الحقيقي هو الذي يتحرّى عن حقيقة الاسلام، ولا يأخذ بالتاريخ على انه حقيقة مسلّم بها، بل يجب عليه التحقيق والتدقيق، فمعظم ما ورد من التاريخ الاسلامي كتبه السلاطين، وفيه كثير من الدسّ المخالف للدِين، وكل شيء نشك فيه نعرضه على القرآن الكريم، و احاديث اهل بيت النبوة، فإن وافقها نأخذ به، وأن اختلف ننبذه ونضرب به عرض الجدار، كما هو حال هذه الرواية الاموية التي تزعم نزول سورة عبس بحق رسول الله، نضربها عرض الجدار لمخالفتها للقرآن الكريم، ولسنة النبي الاعظم وسيرته الشريفة ومخالفتها للعقل.
لا احد سيفر من السؤال والجواب لان الله ــ سبحانه ــ وضع امامنا الحل لهذه المشكلة وقد بين في قرآنه الكريم طريق الوصول الى معرفة القرآن الكريم وتفسيره وقال عزوجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، ونسأل كل مفسري القرآن الكريم؛ هل انتم الراسخون في العلم، وهل انتم الذين ذكرهم الله في قرآنه؟ لم نسمع واحدا من المفسرين في الماضي او الحاضر يقول انه من فئة الراسخين في العلم.
⭐ المسلم الحقيقي هو الذي يتحرّى عن حقيقة الاسلام، ولا يأخذ بالتاريخ على انه حقيقة مسلّم بها، بل يجب عليه التحقيق والتدقيق، فمعظم ما ورد من التاريخ الاسلامي كتبه السلاطين، وفيه كثير من الدسّ المخالف للدِين
لكن هناك حديث للامام الصادق، عليه السلام، يبين من هُم الراسخون في العلم، فقد ورد في الحديث الشريف؛ قال الإمام الصادق، عليه السلام: “نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله”(4).
ولو تمعّنا وفكرنا مليّا في الامر لوجدنا أن هذا الموضوع الذي بأيدينا، وهذه الآية والتفسير الذي قدمه الامام لها، وتبرئة ساحة النبي من سوء الخُلق، وتحقيق الوحدة الموضوعية ما بين الآيات القرآنية، يبين حقيقة انهم الراسخون في العلم، وان الدِين لايؤخذ إلا منهم، لانهم عِدل القرآن الكريم، وانهم الذين يحافظون على إرث الاسلام، وهم الذين يكترثون لسمعة الرسول الاعظم وكرامته.
- المصادر:
1-جامع البيان – الطبري- ج24 ص17- دار التربية والتراث
2-عصمة الانبياء- فخر الدين الرازي – ج1 – ص 137
3- مجمع البيان في تفسير القرآن -الشيخ الطبرسي – ج10 -ص 664 – دار المعرفة
4- الكافي:1/ 213.