يبين ربنا ــ سبحانه وتعالى ــ من قصص يوسف عليه السلام، ما هي عبرة لنا، وفي هذه الآيات ــ كما في آيات أخرى من القرآن الكريم ــ يبين ربنا الحقائق المادية الملموسة في إطار الحقائق الغيبية الايمانية التي لا يعلمها إلا أهل التقوى والايمان، فالحديث عن يوسف ليس حديثا عن قصة جرت في مسار التاريخ بصورة طبيعية، بل القصة ممتزجة بالروحانية والعرفان، والمسائل الالهية، فإذا قرأها الانسان بتأمل وتدبر، فليس فقط يعرف الحقائق من حوله، بل ويعرف الحقائق من وراء الغيب.
وتلك الحقائق هي التي تميز المؤمن، وأيضا تميز الناس الذين ينتصرون في الحياة، ويتفوقون فيها، حينما أراد ان يخرج إخوة يوسف من كنعان، نصحهم أبوهم بنصيحة بقوله: {وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}، ونصيحة الأب هذه، لها أكثر من تفسير، لان الامر لم يكن طارئا.
⭐ يعقوب احتاط لابنائه وهذه رسالة لكل أب ان ينتبه لأولاده، صحيح ان الابناء قد يكبرون ويصبحون ذي رشد، لكن الآباء لديهم حكمة الحياة، وعليهم ان لا يبخلوا بها عن ابنائهم
يعقوب احتاط لابنائه وهذه رسالة لكل أب ان ينتبه لأولاده، صحيح ان الابناء قد يكبرون ويصبحون ذي رشد، لكن الآباء لديهم حكمة الحياة، وعليهم ان لا يبخلوا بها عن ابنائهم، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “يُعجبني رأي الشيخ وجلد الشباب” فالشيخ الكبير في السن له رأي، ويستوحيه من خلاصة تجاربه في الحياة.
صحيح ان يعقوب نبي الله وهو متوكل على الله ــ تعالى ــ لكنه لم يُغفل الجوانب المادية، والتوكل على الله يكون بعد ان يوفر الانسان الشروط الموضوعية لتحقيق شيء، وحديث النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، لذلك الأعرابي الذي قال فيه: إعقل وتوكل”.
التفسيران لقوله يعقوب لابنائه هذه الكلمة: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ}، هناك تفسير يقول: بان يعقوب يعلم ان ابنائهم لم يكن ذهابهم الى مصر لاخذ الحطنة وحسب، بل هم ذاهبون حتى يحكمون مصر، فظاهرا يحتاجون الى طعام، ولعل يعقوب أرادهم حين يدخلون مصر ويستقرون فيها، ان ينتشروا، ويعملوا في مهن مختلفة.
التفسير الآخر؛ ان يعقوب كان يخاف على ابنائه، لان ذهابهم هو الثاني، فقد سبقه رحلة الى مصر، فأراد بتلك النصيحة ان يُبعد عنهم الشر.
وهناك تفسير ثالث؛ ان اولاد يعقوب كانوا يتمتعون بالجمال، والاناقة والهيبة، وحينما يمشون مع بعض، ربما ترميهم عيون الحسد، فأراد عن يبعد عنهم ذلك، لان العين لها أثر.
وتفسير رابع؛ ان يعقوب اراد معرفة ان أولاده تابوا الله ــ تعالى ــ أم لا يزالون على عهدهم القديم، فطلب منهم شيئا غير معقول عند الآخرين، حتى يجرب مدى طاعتهم له في ذلك، وفعلا اطاعوه لانه كان امتحانا لهم.
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}ْ فيوسف أرسله معهم من قبل، وقالوا ان الذئب اكله، بعد ان وعدوا ان يحفظوه، فأين الحفظ حينما ترسل طفلا صغيرا مع مجموعة من الشباب الأقوياء، فيتركون الطفل ويذهبون للعب، فهل هذا يسمى حفظا؟ الحفظ في اللغة العربية: حفظ الشيء والاهتمام به، وتوفير الوسائل المناسبة للمحافظة عليه.
فيعقوب أخذا منهم موثقا وكان عبارة عن الحلف بالله ــ تعالى ــ، وفي بعض الأخبار المروية أنهم حلفوا بمحمد وآله، صلوات الله عليه، وكان الحلف بهذه الصيغة متداولا عند الانبياء وابنائهم وذراريهم، وكان شيئا عظيما عندهم.
{قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فمن جهة أخذ منهم موثقا، ومن أخرى توكل على الله ــ تعالى ــ وهنا وفر الوسائل المادية للسلامة ثم توكل على الله.
ثم أمرهم يعقوب بما يلي: {وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}، وبيّن لهم ان هذا الامر استراتيجية عملية، اما حقيقة الحفظ عند الله ــ تعالى ــ لذلك قال: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}، فالله اذا اراد بأحد سواء فلا يمنع من ذلك شيء، وكل شيء بيده فله الحكم وهو على كل شيء قدير.
⭐ إذا اراد الانسان القيام بعمل فليس يتوكل على الله في بداية العمل فقط، بل يجب ان تستمر العلاقة مع الله طوال العمل، ويكون ذلك بالدعاء والتوسل به ــ تعالى ــ.
{وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ} فمن يريد ان يعتمد فليكن على الله، ومن يريد قوة، وصلابة فمنه ــ تعالى ــ، وكلمة التوكل لها ابعاد كثيرة منها؛ إذا اراد الانسان القيام بعمل فليس يتوكل على الله في بداية العمل فقط، بل يجب ان تستمر العلاقة مع الله طوال العمل من قبيل الدعاء والتوسل به ــ سبحانه وتعالى ــ.
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}، كانت ليعقوب حاجة نفسية عبر تلك الحاجة قضاها، وتلك الحاجة احد أمرين؛ إما حفظ ابنائه، او تجربتهم في الطاعة.
{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}، فليس مجرد شيخ كبير، وأب، بل هو عالم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} لا يعلمون كيف يحافظون على ابنائهم، ولا يعلمون ماذا تعني النبوة والرسالة الالهية التي هي فوق علم الناس وإدراكهم.
على الانسان المؤمن ان يعتمد في أمور وجميع حياته على أمرين؛ الجانب المادي، والجانب المعنوي، ولا يستغني بأحدهما عن الآخر، وهذه سيرة الانبياء والأولياء، عليهم السلام.
- (مقتبس من محاضرة لسماحة المرجع المدرسي “دام ظله).