أسوة حسنة

الرَّسُولُ الأَعْظَمُ الرَّحمَةُ الإِلَهِيَّةِ العًظمَى

  • مقدمة في الأسماء

الباحث في كلمات ومحاضرات سماحة السيد المرجع المدرسي (دام ظله) يجد أنه دائماً وأبداً يؤكد على مسألة الأسماء الحسنى للباري تعالى ومدى تأثيرها وارتباطنا – نحن البشرـ- فيها، وما هي تجلياتها في واقعنا وعالمنا وأنفسنا، حيث تلوح لي نظرية متكاملة لسماحته عن ذلك كله، ولكن ما يلفت النظر هو تأكيده على أن تجليات جميع الأسماء الحسنى في هذه الحياة هي في الرسول الأعظم وأهل بيته الأطهار (عليهم آلاف التحية والثناء).

فالرسول الأكرم تتجلَّى فيه جميع الأسماء بأجلى وأنقى وأرقى صورها ومنها صفة الرَّحمة واسم الرَّحمن فهذا الذي جعل الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، يتصف بهذه الصِّفة الراقية، بل ويكون تجلياً حقيقياً وواقعياً لها في حياتنا الآدمية منذ أن بعثه الله في جوار بيته الحرام ليكون للعالمين بشيراً ونذيراً كان تمثيلاً كاملاً للرَّحمة أيضاً.

  • الرَّحمة الهديَّة

وحقاً كان الرسول محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، أكبر هدية من الخالق لهذه البشرية ولذا قال: “إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةُ مُهْدَاةٌ”، فهو يمثِّل رحمة الله الرَّحمن الرَّحيم لهذا الخلق، والعجيب أننا إذا تتبعنا كلمة الرَّحمة في القرآن الكريم سنجد العجب العُجاب في مواردها لا سيما وأن سبب الخلق هو الرَّحمة، قال تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، (هود: 119)، أي خلقهم للرحمة وبالرحمة وليس لأي شيء آخر، ولذا ورد في حديث قدسي: إنه مَكتوبٌ عندَه تَعالَى فوقَ العَرش: (أنَّ رَحمتَه تَعالَى سَبَقَت غَضَبَه)؛ فهو سُبحانه وتعالَى الغَفُورُ الرَّحيمُ.

وهذه الرَّحمة ليست خاصة، أو ضيِّقة بل هي تشمل جميع الخلق وتنبسط على كل شيء فلولا الرَّحمة لما خُلق هذا الخلق من الذرَّة وحتى المجرة، وهذا ما تؤكده الآيات الكريمة حيث يقول سبحانه: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، (الأعراف: 156)، وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً}، (غافر: 7)، وتجلِّي هذه الرَّحمة الواسعة والشاملة والكاملة كان رسول الله محمد، صلى الله عليه وآله، فهو الذي تجلَّت فيه الرَّحمة الإلهية فكان أرحم بالأمة من الأمهات الرَّحيمات، ولذا قال الباري تعالى في تقرير هذه الصِّفة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، (الأنبياء: 107)، فهو رحمة الله ليس للبشر ولعالم الإنس فقط بل ولا حتى لعالَمي الإنس والجن، بل تعدَّت ذلك ليكون رحمة للعوالم كلها، وهذا هو التجلِّي الحقيقي للرَّحمة الإلهية الشاملة والكاملة والواسعة بحيث تشمل جميع الخلق في العوالم العلوية، والسفلية، والملكوت الأعلى، فالجميع يدين لرسول الله محمد، صلى الله عليه وآله، بفضله ونوره في وجوده.

⭐ الرَّحمة هي كلمة السِّر العجيبة في بناء الشخصية المؤمنة المستقيمة، والحضارة الراقية الإنسانية لأنها هي انبساط اسم الله الرَّحمن والرَّحيم في خلقه

 لأنه النور الأول الذي خلقه الله بالحب وعندما أراد أن يُعرف فضله وكرامته خلق هذا الخلق ليعرِّفهم شرفه وفضله وكرامته عنده، فالشريف منهم مَنْ عرف واعترف وتشرَّف وتقرَّب واغترف من بحر جوده وهذا ما سأله عنه جابر بحديثه المتواتر حيث قال: “أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اَللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ: فَقَالَ: نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ خَلَقَهُ اَللَّهُ ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ”. (بحار الأنوار: ج۱۵ ص24).

فهو أول وأكرم وأعظم مخلوق خلقه الله تعالى ومنه خُلق كل خير وهذا ما تؤكده الزيارة الجامعة حيث نقول بالسلام عليه وعلى أهل بيته الأنوار: “إِنْ ذُكِرَ الخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ، وَأصْلَهُ، وَفَرْعَهُ، وَمَعْدِنَهُ، وَمَأْواهُ، وَمُنْتَهاهُ”، فكل خير ونور وبركة في هذه الحياة هو أصلها وفصلها ومنه ابتدأت وإليه انتهت، وعلينا أن نعرف هذه الحقيقة التي يحاول الكثير من شياطين الإنس والجن أن يطمسوها ويغيِّبوها عن أذهان الأمة.

  • تجليات الرَّحمة المحمدية

وإذا بحثنا عن تجليات الرَّحمة الرَّسولية في حياة الأمة فإننا نحتاج لدراسة السيرة النبوية العطرة كلها لأنها كلها تجلِّي للرَّحمة الرَّسولية في حياة الإنسانية، وذلك من اللحظة الأولى لولادته المباركة الميمونة حيث ترافقت ولادته بتلك الإشارات والأحداث العجيبة على مستوى العالم، ثم طفولته ورحمته في قوم حليمة السَّعدية التي أخذته إلى الصحراء العربية فرأوا منه آيات الرَّحمة والبركة في كل شيء.

وأما صباه وشبابه ونضارته فكانت مضرب للأمثال في بيت عمِّه أبي طالب، عليه السلام، وببركته رزقهم الله الذُّرية الصالحة بقصة مشهورة وحوادث مشهودة ترويها كتب السيرة العطرة، وأما التجلِّي الأرقى والأنقى للرَّحمة فكان في بعثته التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وأخرجت العرب من ظلمات الجاهلية على أنوار العلم والعالمية.

والعجيب كما يراه العلماء والباحثون في التاريخ والسيرة النبوية هو أن الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، الذي بنا هذه الحضارة الراقية خلال عشر سنوات من عمر الرِّسالة في المدينة المنورة حيث خاض فيها أكثر من ثمانين حرباً (معارك وغزوات وسرايا) ولم يقتل بيده الشريفة أحداً، بل كان سيفه القاطع هو أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ويبررون ذلك لأنه يمثل رحمة الله في الخلق، والرحمة لا تقتل بل تُحيي.

كما أن أحد العلماء والباحثين يقول: أنه أشاد هذه الحضارة وخاض كل هذه الحروب ولكنه لم يُقتل فيها أكثر من مئة وخمسين فقط، لأنه كان رحمة ولم يكن عذاباً، وكان يبحث لهم عن الحياة الحرة الكريمة وليس عن الموت والفناء، ويريدهم أن يدخلوا الجنة لا أن يُكبكوا على وجوههم في نار جهنم، فأي رحمة وعظمة كانت فيك سيدي ومولاي يا رسول الله؟

  • هل تتجلى رحمة الرسول فينا؟

وهنا يعصر قلبي الألم الكبير لما أراه في واقعنا الذي نعيشه بكل ما فيه من مآسي وكوارث يندى لها جبين التاريخ من هذه الجرائم البشعة التي يرتكبها شذاذ الآفاق وأتباع الشيطان من مجرمي دول الاستكبار العالمي من أنواع وصنوف القتل والتدمير الممنهج لدولنا الإسلامية وشعوبنا المستضعفة وكل ذلك يتمُّ بأيدي قذرة وملوثة تدَّعي أنها من هذه الأمة المرحومة بالحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله.

وما أحوجنا إلى تلك الرَّحمة الرَّبانية التي أهداها الله لنا من أخلاق ورحمة رسولنا الكريم لنكون كما وصفنا الباري تعالى في كتابه الكريم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}. (الفتح: 29)، فمَنْ يدَّعي أنه من أمته عليه أن يقتدي بسيرته المباركة في الرَّحمة بنفسه وبأهله وبعباد الله من إخوته المسلمين بل وبالخلق كلهم من حوله لتكون الرَّحمة كما أرادها الله تعالى في قلوبنا، وحياتنا، وكل شؤوننا.

⭐ المولد الشَّريف فرصة لنا لنستذكر تلك الصفات والأخلاق النبوية التي فتحت القلوب لهذه الدَّعوة وهذا الدِّين الخاتم العظيم

(فالرُّحماء يرحمهم الله)، و”ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء”، وكثيرة هي الأقوال التي نحفظها منذ نعومة أظفارنا ونردِّدها كأمثال، ولكن لا نطبِّقها في واقعنا العملي لا على أنفسنا، ولا على أهلنا ولا الناس من حولنا فترى الجميع فراعنة ونماريد على أهلهم واقرب الناس إليهم وكأن الله نزع الرَّحمة من قلوبنا، فلا الكبير يرحم الصَّغير، ولا الصغير يوقِّر ويحترم الكبير، ولا الرجل يعطف على المرأة، ولا المرأة ترحم زوجها وكأنها تراها عبداً من عبيدها وتحت تصرفها فالجميع يتعاملون بالقسوة فأين الرحمة يا أمة الرَّحمة المهداة؟

  • الرَّحمة جوهرة الوجود

فلماذا فقدنا هذه الجوهرة الثمينة، والتي خُلقنا بها ومن أجلها، أيها الأحبة؟ فالرَّحمة إذا تجلَّت في قلوبنا وانعكست في حياتنا فتأكدوا أن كل الحياة ستتغيَّر من حولنا وسنعود أمة واحدة ترهبها كل الأمم والشعوب، كما كنا في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وذلك لأنه نُصر بالرُّعب من مسيرة أربعين يوماً، لأنه كان رحمة الله على المؤمنين، وعذابه وسخطه على الكافرين والمشركين كما في الآيات الكريمة.

فالرَّحمة هي كلمة السِّر العجيبة في بناء الشخصية المؤمنة المستقيمة، والحضارة الراقية الإنسانية لأنها هي انبساط اسم الله الرَّحمن والرَّحيم في خلقه، وبهذا الاسم والصفة المباركة قامت الكائنات وخُلق الخلق جميعاً، وإذا أدركنا هذا السِّر وعظمته والتزمنا بمعناه ومغزاه قولاً وعملاً في حياتنا فإنه سيعيدنا إلى الأمة الوسطى والنمرقة الوسطى بين الأمم والشعوب ونعود إلى عصر الحضارة والتألق من جديد.

وفي أيام ميلاد نبينا نبي الرَّحمة علينا أن نستذكر هذه المعاني الراقية ونتمثَّلها في سلوكنا وحياتنا لتكون لنا نبراساً وليكون الرسول الأكرم لنا قدوة وأسوة في رحمته بنا وبكل الخلائق الأخرى، وينعكس ذلك على أنفسنا فنرحمها من الذنوب والخطايا، وعلى أهلنا فنرحمهم من غضبنا وسخطنا وسوء أخلاقنا التي اعتدنا عليها نتيجة أيام القهر والظلم الذي مورس علينا في العهود الماضية من قبل سلاطين وحكام الجور والطغيان، فورثنا ذلك قهراً عنا وآن الأوان لنريح أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا من تلك المخلفات العفنة، والأخلاق الفظة.

المولد الشَّريف فرصة لنا لنستذكر تلك الصفات والأخلاق النبوية التي فتحت القلوب لهذه الدَّعوة وهذا الدِّين الخاتم العظيم، ثم فتحت الدنيا أمام المسلمين لولا أن أغلقها أولئك الطغاة من صبيان النار القرشية والأموية بالخصوص، فآن الأوان لنعود إلى رحمة الله وندخلها من بابها الواسع والرحمة المهداة رسولنا الكريم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، فإنه باب الله ورحمته لخلقه جميعاً.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا