مكارم الأخلاق

تأملات في مناجاة التائبين (3) الفرصة في الدنيا ليست كالفرصة في الآخرة

“فَوَعِزَّتِكَ مَا أَجِدُ لِذُنُوبِي سِواكَ غَافِراً”

كان الكلام فيما مضى كيف ان الذنوب والخطايا تحيط بالانسان، وان الجناية تميت القلب، وحياة القلب تعود بالتوبة؛ اي بالعودة الى الله والانقطاع اليه، والتوكل عليه، ثم يعلمنا الإمام السجاد، عليه السلام، من خلال هذه المناجاة الرائعة، يقول عليه السلام: “فَوَعِزَّتِكَ مَا أَجِدُ لِذُنُوبِي سِواكَ غَافِراً”.

حينما يرتكب الانسان ذنبا واحدا فإن كل هذا الكون لا يتمكن من كسر ذلك الذنب ولا محوه، فالله وحده هو الذي يزيل الذنب “فَوَعِزَّتِكَ” يعني القسم بعزّة الله وقوته، ومنعته، لانه تارة يملك الانسان قوةً لكنه غير ممتنع، وتارة يكون في حكم ممتنع لكنه لا يملك قوة فعلية.

الله ــ سبحانه وتعالى ــ هو القوي الممتنع الذي لا يأخذ احد منه شيئا، فنحن في هذه الفقرة من المناجاة نقسم بتلك القوة الممتنعة التي تقهر وتتغلب على جميع القوى.

 “مَا أَجِدُ لِذُنُوبِي سِواكَ غَافِرا” السلطان والشهرة، والمال، والقوة غيرها، لا يمكن أن تغفر ذنبا واحدا للإنسان، فإذن لابد من العودة الى الله ــ تعالى ــ لتطهير تلك الذنوب والآثام.

⭐ أحيانا يرتكب الانسان جريرة بحق آخر، فيـأخذونه الى المحكمة، لكنه يلجأ الى المال، والصديق، والمعرفة، وبأي شيء آخر، حتى يخرج من السجن وكأنه لم يعمل شيئا! أما بالنسبة للمحكمة الكبرى يوم القيامة فالأمور تختلف تمام

أحيانا يرتكب الانسان جريرة بحق آخر، فيـأخذونه الى المحكمة، لكنه يلجأ الى المال، والصديق، والمعرفة، وبأي شيء آخر، حتى يخرج من السجن وكأنه لم يعمل شيئا! أما بالنسبة للمحكمة الكبرى يوم القيامة فالأمور تختلف تمام، فلا يقبل منه أن يفتدي ب ملئ الارض ذهبا، حتى يخرج من النار ما قُبل منه ذلك، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

العودة الى الله ــ تعالى ــ يعني الرجوع الى القيم الإلهية، وذلك يكون بالابتعاد عن الذنوب كالكِبر والغرور وما اشبه.

“ولا ارى لكسري غيرك جابرا”

إذا كسرت زجاجة واعيدت من جديد تبقى فيها أثر الكسر، بل قد يجبر الكسر نهائيا في بعض الامور، لكن النفس إذا خدشت ماذا يجبرها؟

والاعظم من ذلك حينما يرتكب الانسان ذنبا هنالك ينكسر نور داخل القلب، فهذه الشخصية ينتابها ضعف حقيقي، فكل ذنب يرتكبه الانسان ففيه كسرة، وهي بدورها تولّد ضعفا داخليا.

عندما تُطفأ ومضة من الايمان في النفس فإنها تخلّف ضعفا وخوفا، وغفلة، بل قد يضيع الانسان إذا لم يتدارك ويعيد ذلك الشعاع من الايمان، ويرجع قوة الارادة التي فقدها، فعودة النور الى النفس وتقوية الارادة، وانكسار النفس، يكون بالرجوع الى الله “ولا ارى لكسري غيرك جابرا”.

“وقد خضعت بالانابة اليك” بعد ابتعاد الانسان عن الله ــ تعالى ــ بسبب الحياة الدنيا؛ من مال، وغرور الشباب، وارتكاب الذنوب والآثام..، لابد ان يعود الى الله وذلك يكون بالخضوع له ــ سبحانه وتعالى ــ “بالانابة إليك” وتعني العودة مع التوبة، والخضوع هو العبودية المطلقة لله.

غفران الذنب، وجبران الكسر من الله، لكن على الانسان ان يعود الى  الله عودةً خالصة موازية لذلك الذنب، حتى يحقق نتيجة جبران الكسر وغفران الذنب.

⭐ غفران الذنب، وجبران الكسر من الله، لكن على الانسان ان يعود الى  الله عودةً خالصة موازية لذلك الذنب، حتى يحقق نتيجة جبران الكسر وغفران الذنب

“وعنوت بالاستكانة لديك” الاستكانة يعني الضعف، وبهذه المناجاة إقرار من العائد ان ضعيف أمام الله، وقد جاء عاد ليأخذ القوة منه ــ تعالى ــ  ومن المهم في رحلة الرجوع الى الله ان يستحضر الانسان ذنوبه، وان يحدد التي يستطيع تذكرها حتى يتجنبها في المستقبل.

الانابة والاستكانة الى الله هي طلب القوة منه ــ تعالى ــ وذلك يكون بتلاوة القرآن الكريم والتدبر في آياته، ويكون ايضا بالدعاء والمناجاة وهذا هو المنهج السليم لذلك، ولذا فهو يأمرنا ان نتبرأ من كل ظالم، وايضا يحذرنا من الشهوات: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، وهذا المنهج في روايات أهل البيت، عليهم السلام: “ميدانكم الاول انفسكم ان قدرتم عليها فأنتم على غيرها أقدر”.

نحن بحاجة الى الارتباط بقيم السماء ومنهج الرسالة؛ بقراءة القرآن ويكون ذلك مصداقا لقوله تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}. وان ندعو الله ـ تعالى ـ وذلك استجابة لقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. وان نتدبر آيات الله المباركة في كتابه المجيد لانه ــ تعالى ــ داعنا الى ذلك: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، والاستجابة لله أيضا تتمثل في حضور المساجد في جميع الفرائض، وهكذا في بقية الامور التي تمثل استجابةً لله ــ تعالى ــ حتى يتمكن الانسان من خلالها من سد النقص، وجبران الكسر الذي سببته الذنوب والمعاصي.


  • (مقتبس من محاضرة لآية الله الشهيد نمر باقر النمر)

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا