تتلاطم أمواج الفتن في الزمن الحاضر واختلطت مفاهيم الحياة فلم تعد بارزة بمعناها الحقيقي، ومن هذه المفاهيم هو مفهوم النصيحة المقدس التي منذ بدء الخليقة خُدشت بأول تشوه معنوي امام العقل البشري من قِبل العدو الأول والحاسد ابليس اللعين، جاء في سورة الأعراف: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.
فلم يكن من أبينا آدم بفطرته إلا ان يأخذ بكلام ابليس لانه مزج نصيحته بالقسم الكاذب، وهذا اول تشويه لأحقية النصيحة في ذلك الزمان، فكيف بنا في هذا العصر حيث الفتن واخر الزمان!
لذا حريّ بمن يدّعي الايمان والتدين ان ينصح الاخرين بدون انتظار مقابل ولا تحقيق لمصالح ذاتية تودي بقرارات الاخرين، ولا إضمارٍ لمضرتهم قال الإمام الصادق، عليه السلام: “النصيحة من الحاسد محال “(1).
هذا من ناحية، لان نبينا الكريم محمد، صلى الله عليه واله، الذي نور ظلام الجاهلية بنور الإسلام الحقيقي والمفاهيم الربانية الجليلة قال موضحا هذا المعنى : “الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم”(2).
⭐ حريّ بمن يدّعي الايمان والتدين ان ينصح الاخرين بدون انتظار مقابل ولا تحقيق لمصالح ذاتية تودي بقرارات الاخرين
ولأهميته فقد جُمع الدين كله في كلمة واحدة؛ (النصيحة) وهي المبدأ الذي سار عليه الانبياء والمرسلين لتبليغ الرسالات السماوية، قال تعالى في سورة الاعراف كذلك عن لسان النبي نوح عليه السلام مخاطبا قومه :{أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم}
ومن ناحية أخرى على من يطلب النصيحة هو الآخر عليه ان يطلبها من أهلها وان يغربلها قبل الأخذ بها، فليس كل من ينصح يريد منفعتك، قال الامام علي، عليه السلام، في كتابه لمالك الاشتر: “ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين “(3)، وعنه عليه السلام: “ربما نصح غير الناصح وغش المستنصح”(4).
وللنصيحة أساليب وطرق متنوعة فليست كل الارض صالحة للزراعة والإثمار، وليست كل العقول سواسية، لهذا فأن الناصح عليه:
اولا: ان ينصح نفسه قبل الاخرين ومن ثم يسلك هذا الطريق بلون “حب لأخيك ماتحب لنفسك”.
ثانيا: ان تكون النصيحة سرية لا علنية، يقول الإمام العسكري، عليه السلام: “من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه”(5).
ثالثا: وان يضع نفسه محل من يطلب النصيحة فلا يتكلم شرقا وغربا ويبتعد عن صلب المشكلة.
رابعا: ان يتكلم بلغة سلسة مليئة بالتواضع وطلب مصلحة الاخرين ومحبتهم، قال تعالى في سورة النحل : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. (آية/ 125).
وختاما اقول: النصيحة هي فن وذوق وأخلاق جميلة ينبغي على الجميع ان يكونوا فنانين بأعطاء وأخذ النصيحة من اهلها وان لا يقطعوا سبيل هذا المجرى المقدس.
هامش:
(١) البحار: ٧٨ / ١٩٤ / ٩.
(٢) ذكره صحيح مسلم والبخاري
(٣) نهج البلاغة: الكتاب ٥٣.
(٤) نهج البلاغة: الكتاب ٣١.
(٥) تحف العقول: ٤٨٩.
