ثقافة رسالية

ثَقَافَةُ عَاشُورَاء رُؤيَةٌ حَضَارِيَّة (1)

  • مقدمة ثقافية

الثقافة هي الحياة، والحياة هي الثقافة لأنها تعكس الصورة الحقيقية والواقعية لحياة الأمة والمجتمعات، ولذا أردنا الحديث عن الثقافة الحضارية، ونعني بها ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة في بناء الحضارة الراقية، وتلك هي الثقافة الحضارية لأنها تكون حاضرة بكل قيمها وقوتها في المجتمع وتصبغه بصبغتها الخاصة والمميزة.

والحضارة هي الحضور الإنساني المنضبط بمنظومة من القيم الفاعلة في المجتمع، والثقافة هي مجموعة الممارسات والقيم الخاصة بمجتمع أو مجموعة من البشر، والتي تنعكس على الصورة الإجمالية للحياة الاجتماعية لها، ويكون لها من الظهور ما ليس لغيرها من الظواهر والعادات والتقاليد والممارسات التي تكون في المجتمع أصيلة، أو وافدة إلا أنها تبقى تلك الثقافة هي الأساس والأصل والتي تصبغ المجتمع بصبغتها وتلوِّنه بألوانها، وبقيَّة العادات تكون رديفة وثانوية بالنِّسبة لها.

ومن هنا نرى ونتحدث عن المجتمعات والتجمعات الولائية والشيعية وما يميِّزها من ثقافة حضارية وهي إما الولاء التي تنهل من نبع وفيض الغدير النَّمير، وإما عاشوراء وقيمها الخاصة، فتجمعاتنا ومجتمعاتنا وشبابنا وشيوخنا وبيوتنا كلها تنصبغ بهاتين الصبغتين الحضاريتين بالولاء، وعاشوراء، فهاتين الصبغتين كأن الله ـ تعالى ـ خلقنا منهما، ولهما، وفيهما، فطينتنا عُجنت بالولاء لأوليائنا، وحياتنا صَبَغَتها عاشوراء وكربلاء بصبغتها الأرجوانية الحمراء، واللطم والبكاء، ومسيرات العزاء، فصار بالنسبة لنا كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء، وشعارنا الدائم: “يا لثارات الحسين”.

  • موسم الحضارة الحسينية

وبما أننا دخلنا في موسم الحضارة الحسينية الراقية، أردنا الحديث عن ثقافة عاشوراء، وبالخصوص ما تناوله كتاب (ثقافة عاشوراء) للدكتور والباحث الولائي، راشد الراسد، حيث كان آخر ما وصل إليَّ من كتابات عاشورائية، ولما وجدتُ فيه من الفكر الأصيل، والثقافة العاشورائية الحضارية، والحسّ الإيماني بالمسؤولية الرسالية تجاه الأمة وأجيالها المعاصرة، حيث أن جناب الدكتور الباحث ومن خلال تاريخه الجهادي الطويل في مجال السياسة، والفكر، والثقافة، والعقيدة، وتنقُّله في البلاد المختلفة، جعله يعيش التجارب المختلفة ويراها من زوايا متفاوتة عن كثب فكان فكره واقعياً وليس طوباوياً مجرَّداً، وثقافته أصيلة وليست هجينة، وأدبه راقي وقلمه المتميِّز بالولاء.

ولذا أحببت أن أتناول بعض تلك الجوانب الثقافية والحضارية – وكل ما تناوله جنابه حيوي وحضاري- لنقدِّمه زاداً ثقافياً لشبابنا في هذا الموسم العاشورائي الذي ننتظره بقلوب متلهفة، ونفوس متعطشة، لأننا نحيى بالحسين، وعاشورائه، فالإمام الحسين وقضيته بالنسبة لنا هي الماء الذي جعله الله سرَّ الحياة، فسرُّ حياتنا وبقائنا واستمرارنا الإمام الحسين، عليه السلام، وكربلاء وعاشوراء المأساة المتجددة الخالدة.

⭐ إن عاشوراء هي جامعة سياسية ثقافية تاريخية إنسانية اجتماعية وأخلاقية شاملة تحت سقف واحد، فيجب أن تحظى منَّا بكل عناية واهتمام وأن تكون في قمَّة سلَّم أولوياتنا في عالم الوعي والمعرفة والبصيرة

فثقافة عاشوراء لم تأتِ من إنسان عادي، أو مثقف درس في جامعات الغرب وتخرَّج منها بأعلى الشهادات، فهو في الحقيقة لا يحتاج إليها ونحن لا نحتاجها منه في هذا السياق، لأننا نحتاج لثقافته الأصيلة، وولاءه الخالص، وتشرُّبه لقضية الإمام الحسين، عليه السلام، ونهضته، وكيف يعكسها إلينا بفكره النيِّر، وقلمه الرائع، وأدبه الرفيع لنستفيدَ منه غذاءً عاشورائياً في هذا العصر الرقمي، والحضارة الرقمية التي تكاد تخلو على عروشها من كل قيمة وفضيلة لولا قضية الإمام الحسين، عليه السلام، وشعائره، فالحضارة اليوم صارت مادية وخلت من كل قيمة ومعنوية.

  • ثقافة عاشوراء

هذا الكتاب القشيب، وفكرته الراقية، هو بحثٌ واقعي، وهمٌّ حقيقي يعيشه جناب الدكتور الراشد فكراً، وعقيدة، وممارسة يومية لقضايا عاشوراء في الأمة، فتناول بعضها باختصار ولكن ليس مخلاً، وبأدب ليس مملاً، بل تناولها بكلمات وكأنه يرسمها بريشة فنان، فجاءت الرؤى والأفكار ضمن أربعة عشر فصلاً بعدد المعصومين وببركتهم، وبدأ الفصل الأول بهذا السؤال الضروري والحيوي: لماذا ثقافة عاشوراء؟ وأجاب عنه بإجابات تشعر منها مدى أثر قضية الإمام الحسين، عليه السلام، في فكره وقلبه، وتأثيرها في المجتمع والحضارة الإنسانية.

عاشوراء ليست قضية تاريخية أكل عليها الدَّهر وشرب كما يحاول بعض شذاذ الآفاق أن يظهروها اليوم، وفي كل يوم فيه أناس من أمثالهم يعبدون الشيطان والسلطان ويحاربون أولياء الرَّحمن، فهؤلاء الأشقياء قطاع طرق الحضارة لأنهم يريدون أن يعيدوا الأمة إلى الجاهلية التي أنقذهم الله منها بالقرآن وتراجمته من أهل البيت الأطهار، عليهم السلام، لا سيما الإمام الحسين، الذي كان قرآناً يتجسَّد ويمشي على قدمين، فقتله أولئك اللعناء امتثالاً لأمر يزيد الشَّر وسلطته الأموية الغاشمة الجائرة.

عاشوراء قيمة أُضيفت إلى منظومة القيم الإنسانية الراقية، والتي تصنع الحضارة وتصبغ الإنسان بصبغتها الرافضة لكل أنواع الظلم والجور والطغيان، فصرخة عاشوراء مدوِّية، وراية كربلاء عالية، وعشاق كربلاء على موعد قريب من معشوقهم وإمامهم وقائدهم الحسين وقضيته التي ارتفعت عن كل القضايا، وثقافته التي فاقت كل الثقافات في هذه الدنيا.

ولذا يجيب الدكتور على هذا السؤال الحيوي بقول: “لأنها أغنى محطة يمكن أن يتزوَّد منها الإنسان في كافة حقول المعرفة.. لقد ترك الإمام الحسين، عليه السلام، في قضية عاشوراء تراثاً إنسانياً ومعرفياً ضخماً وعملاقاً سيظل يرفد الفكر الإنساني وحركة المجتمعات البشرية إلى نهاية التاريخ بما تحتاجه من قيم ومبادئ حيَّة لمواجهة تحديات الحياة والمعرفة، وذلك من خلال ما تنضح به عاشوراء من قيم معرفية هائلة”.

ثم يقول: “إن عاشوراء هي جامعة سياسية ثقافية تاريخية إنسانية اجتماعية وأخلاقية شاملة تحت سقف واحد، فيجب أن تحظى منَّا بكل عناية واهتمام وأن تكون في قمَّة سلَّم أولوياتنا في عالم الوعي والمعرفة والبصيرة، لأن عاشوراء شكَّلت – بما هي ثورة وحركة- نهضة في كل مفردة من مفردات الفكر الإنساني وحضوراً مذهلاً في هذا الفكر، بل وأغنت تراثه بما يحتاجه من معانٍ وقيم، تمثَّل ذلك في تفاصيل قصة عاشوراء وحيثياتها وذلك منذ شرارتها الأولى وحتى لحظات وقائعها الدامية عندما قدَّمت عاشوراء قامة بحجم الإمام الحسين، عليه السلام، قرباناً ربانياً عظيماً من أجل قيمها، وأهدافها العليا”. (ص 26).

⭐ واحدة من المفارقات العجيبة في كربلاء أن نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، كانت متقدمة على نحو كبير في تاريخ حضارتنا الإنسانية

وفعلاً إن التاريخ البشري العام والإسلامي والعربي الخاص يقول ويشهد بأن ما بعد عاشوراء ليس كقبلها قطعاً فالتاريخ تغيَّر والقيم الحضارية تجدَّدت بما أضافته عاشوراء ونهضتها إلى تلك المنظومة القيمية من قيم كبرى لها كقيمة الولاء لأهل البيت الأطهار، والفداء لتلك القامة الرَّبانية الراقية، وذاك الدِّين الإلهي الخاتم الذي جعله الله أعظم، وأرقى، وأعلى القيم.

 وهذا ما قدَّمته فكرة الجهاد، وأثبتته ثقافة الاستشهاد في سبيل الحق، والقيم الرَّبانية، وهذه النماذج الراقية والرائعة من أولئك الشهداء العظماء الذين لن تجد نظيراً لهم في التاريخ الإنساني كله، ولذا يقول الدكتور عن شمولية وإنسانية النهضة الحسينية المباركة: “لقد كانت نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، وقصة عاشوراء حركة شمولية لم تكن تمثل حزباً أو جماعة، أو فئة محددة، وإنما كانت تمثل مشروعاً حضارياً عملاقاً في اتجاه إحياء وبعث قيم الدِّين الحنيف كما جاء به النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، بما تحمله الفكرة من مضامين إنسانية، وحضارية، وكونية، شاملة لا يمكن اختزالها في أي قالب فئوي مهما كانت درجته ومكانته في المجتمع وبين سائر الأمم”. (ص 28).

  •  عاشوراء شلال معرفي

الحق يقال: إن الإمام الحسين، عليه السلام، صار ثقافة إنسانية راقية جداً اكتسحت كل الساحات الإسلامية، واليوم نرى ملامحها الكونية تلوح في الأفق، وذلك لأن عاشوراءه تحوَّلت من نهضة محدودة ومختصرة إلى مشروع بحجم الرسالة الإسلامية الخاتمة فصارت تنطق باسم الحق، والصدق، والقيمة، والفضيلة، وصرخة مدوية في وجه الظلم، والطغيان، والفساد في كل زمان ومكان.

ولذا يقول الدكتور: “واحدة من المفارقات العجيبة في كربلاء أن نهضة الإمام الحسين، عليه السلام، كانت متقدمة على نحو كبير في تاريخ حضارتنا الإنسانية، وذلك لأنه جاء وضخَّ كمَّاً هائلاً من الثقافة الإنسانية في عدَّة اتجاهات لم تكن مألوفة، وليس لها سابقة قبل عاشوراء سنة 61 للهجرة، وهذه حقيقة تؤكدها الوقائع” المتتابعة منذ انطلاقتها وحتى يومنا الحاضر، وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها. (ص 34).

يضيف الكاتب: “سوف يأتي اليوم الذي تتحرر فيه المجتمعات الإنسانية من جميع عقدها الأيديولوجية والطائفية والعرقية والإثنية لتنفتح على هذه المحطة المهمة والملهمة في تاريخ الإنسانية، وستكون مرتكزاً للانطلاق لإحياء قيمها الكبرى بعد أن يئست مجتمعاتنا البشرية من تجاربها الذاتية المخزية، والتي لم تزد البشرية إلا شقاء، وبؤساً، وتعاسة”. (ص 36).

وفعلاً أقامت عاشوراء ونهضتها شلالاً كبيراً من الفكر والثقافة الحضارية الذي غيَّر وجه الإنسانية، ومجرى التاريخ البشري، فصارت الحياة زينتها الإمام الحسين، عليه السلام، وصبغتها وثقافتها عاشوراء، ووجهتها كربلاء، لأنها جنَّة الله في الأرض، فجدير بنا أن نفخر بصبغة الولاء، وثقافة عاشوراء الحضارية الراقية.

   يتبع…

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا