قال أمير المؤمنين، عليه السلام: ” وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الْأَمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنكَرِ، وَشَنَآنِ الْفَاسِقيِنَ: فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤمِنِينَ..”.
في بيان دعائم الايمان من كلام أمير المؤمنين، عليه السلام، نستكمل بيان دعامة “الجهاد” وهذه هي المقالة الثانية في بيان هذه الدعامة.
الايمان تموّج في الروح وكما لا يستطيع الموج إلا أن يكون متحركا وإلا فَقَد وجوده، كذلك الايمان لا يستطيع إلا أن يكون متحركا فاعلا في الزمن، مؤثرا في المجتمع، مصلحا وهادما، وبنايا.
المجتمع الاسلامي يُطهّر بعضه بعضا كماء النهر؛ مجتمع الشاهد على نفسه و على غيره، ولأن عوامل الزمن والمعاصي والغفلة، والمؤثرات الاجتماعية تفرض على المجتمع آثارها السيئة، كان لابد من وجود عوامل واسباب تطهر المجتمع، وتزيل عنه الرواسب، لان المجتمع مثل الانسان، فالجسم يحتاج الى قنوات لامتصاص الرواسب وقذفها خارج الجسم، والكِلية هي التي تقوم بهذه المهمة في جسم الانسان، وإذا لم توجد كِلية في جسم الانسان فإن الدم يتسمم، والتسمم سيبلغ المخ، ثم يموت الانسان مسموما.
⭐ المجتمع الاسلامي يطهّر بعضه بعضا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كذلك هو المجتمع؛ فإن لم يوجد فيه ما يزيل عنه الرواسب ويمنع تراكمها، ويقف من ان تكون تلك الرواسب حالة طبيعية في المجتمع، فإن المجتمع سيتسمّم بمرور الزمن ويموت بالتسمم الاجتماعي.
المجتمع الاسلامي يطهر بعضه بعضا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الحالة هي الحساسية الشديدة تجاه الحق إيجابا، وتجاه الباطل سلبا، هذه الحالة هي الضمير الاجتماعي الذي يردع الفاسقين والمنحرفين، ويشجع الصالحين.
يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دور تنقية المجتمع، وردع الفساد والانحراف، ذلك ان في داخل الانسان شعور فطري بمحاولة التوفيق بينه وبين الظرف الذي يعيش فيه، فالفرد يحاول ان يلبس ما يلبسه الناس، وان يصنع ديكورَ بيته مشابها لغيره، وان يركب في سيارة هي الشائعة والمعروفة عند الناس.
الانسان لا يريد ان يكون شاذاً في المجتمع فإذا اصبح الشذوذ حالة طبيعية في المجتمع، فإن الانسان يحاول ان يخرج من طوره لكي يتوافق مع المجتمع
إذا كان الفرد يتحمل مسؤوليته في المجتمع؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حينئذ ستحدث حالة الردع في الانسان من الانحراف، لان الفرد لا يريد ان يكون شاذا، إن عرف أي إنسان إن تخطى القيم والمبادئ خطوةً واحدة، فإن ألف عين، وألف لسان وألف يد تمتد إليه، لو عرف ذلك، لن يخطو خطوةً واحدة في الاتجاه الخاطئ، من هنا فإن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يأتيان قبل الجهاد وهما افضل منه، لان الجهاد مع العدو هو ردع خارجي ما وراء الحدود، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما وسيلتان لمنع النخر في المجتمع والسقوط الداخلي في المجتمع الاسلامي
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يردعان؛ أي يمنعان الانحراف قبل ان يحدث، ولا يسمحان بأن يبدأ الانحراف في المجتمع، ومن ثم يُعالج الانحراف.
إذا وجد الضمير الاجتماعي عند الناس فإنه يبنض ضد الانحراف، ويشجع في الاتجاه الصحيح، ومن ثم يمنع الفرد والمجتمع من السير في الاتجاه الخاطئ.
في بعض المجتمعات تظهر حالة الردع الاجتماعي في صورة النظافة ـ مثلا ـ، قد يدخل رجل غير ملتزم بالنظافة في هذا المجتمع، إلا أنه يجد ألف لسان يعترض عليه عدم النظافة في جسمه وفيما يرتبط بالوضع العام، ومن ثم لا يستطيع إلا ان يكون نظيفا، حينما تدخل في مجتمع رادع النظافة فيه الى هذه الدرجة، فإنك لا تستطيع إلا ان تكون نظيفا.
في مقابل مجتمع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، هنالك مجتمع اللامبالاة وهذا المجتمع مهدد بالتلاشي، لانه يكون مجتمعا كجسم إنسان لا توجد فيه كِلية ومثل هذا الجسم يتسمم وينتهي.
لم تسقط حضارة من الخارج؛ ذلك ان الله إذا انعم على قوم بنعمة لم يزلها، يقول ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فحضارة قائمة لا تبيد إلا بعوامل داخلية، وحينما وجد الشيء إنما ليبقى، وإذا رأينا أنه انتهى فلابد ان نبحث عن العوامل الداخلية التي أدت الى زواله، فالحضارات التي بادت بعد ان سادت، إنما لانعدام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها.
مجتمع اللامبالاة يقتل النبيين وقد يكون القاتل واحدا لكن المجتمع كله مسؤول، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} واحد هو الذي قتل الناقة، لكن القرآن الكريم يصف القوم كلهم بالطغيان، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}، فمجتمع اللامبالاة ليست مشكلته في شخص منحرف، بل المشكلة هي السكوت على الانحراف.
⭐ إذا كان الفرد يتحمل مسؤوليته في المجتمع؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حينئذ ستحدث حالة الردع في الانسان من الانحراف
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو تحمل للفرد لمسؤوليته أمام المجتمع، وليس محصورا بنصحية الاب لابنه، وإرشاد العالم للجاهل فيما يرتبط بالوضوء والغسل وعدد الركعات في الصلاة، بل هو شعور وتحمل للمسؤولية من الفرد تجاه المجتمع، وله شقان؛ إيجابي وسلبي، فهو من جهة ارتباط المؤمن بالجماعة المؤمنة لابد أن يكون الفرد مشجعا لذلك، فهو أمر بالمعروف، ومن جهة أخرى مقاطعة الجماعة الفاسدة والمنحرفة وهذا هو الجانب السلبي (النهي عن المنكر).
الامر بالمعروف مساندة، والنهي عن المنكر مقاطعة، فمن واجبك كمؤمن ان تكون مساندا للحق، والمعروف هو كل ما يأمر به الضمير بالاستناد الى قيم السماء، والمقاطعة والمعارضة ليس حق في المجتمع الاسلامي، بل واجب لابد ان يؤديه كل فرد، فلا يجوز للفرد المسلم ان يتنازل عن المعارضة للباطل، سواء كان الباطل متمثلا في شخص على شكل معصية فردية ام جماعية، او متمثلا في حاكم.
المعارضة في الاسلام واجبة شخصية؛ فلو ان المجتمع كله لم يتحمل مسؤوليته، فإن الله لا يغفر تنازل الفرد عن واجبه ومسؤوليته، لذلك كان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا فرديا على كل إنسان، وليس واجبا جماعيا إن لم يتحمله المجموع سقط عن الفرد.
المجتمع الاسلامي يتمتع بحالتين؛ الأولى: مساندته كل فرد مؤمن في طريق جبهة الحق، والحالة الثانية: معارضة كل فرد مؤمن لجبهة الباطل، وهذا المجتمع يقدم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، وهو مجتمع حي ايجابيا وسلبيا؛ فايجابيا يدفع الفرد نحو الاتجاه الصحيح، وسلبا يمنع ويردع الانحراف الذي قد ينشأ بين الناس.