مناسبات

تَبلور القِيَادَةُ الرَّبّانيَّة فِي يَومِ الغَدِير

في الثامن من ذي الحجة عام 10 للهجرة كانت بيعة الغدير وتنصيب الأمير قائداً ربانياً

  • مقدمة قيادية

القیادة أمر في غاية الأهمية والضرورة بالنسبة للبشر كأفراد وأشخاص، وكأسر ومجتمعات، وأمة وحضارات؛ ذلك لأن الخالق -سبحانه- عندما خلق و أوجد هذا المخلوق وفضَّله على كثير ممَّن خلق، وكرَّمه بأن وهب له العقل، و وضعه في رأسه ليكون هو المدير والمدبِّر والمراقب لشؤونه وشجونه وكل حياته الخاصة والعامة، فالعقل الذي “هو عقال من الجهل“، وهو الذي “به أُطيع الرحمن واكتسبت الجنان“، هو القائد لصاحبه ليورده موارده؛ سواء في الهداية ونهايتها إلى الجنَّة، أو الضَّلالة وخاتمتها إلى النار والعياذ بالله.

ومن هنا نعرف أهمية وضرورة القيادة بالنسبة للشخص، وكذلك هي بالنسبة لشخصية الأمة والمجتمع، و من ثمّ الحضارة الإنسانية التي تقاس بقيادتها وليس بأي شيء آخر، فإذا صلحت القيادة كانت الدولة والأمة والحضارة صالحة، وإذا فسدت القيادة فإن ذلك يتبع كل الكوارث على الأمة حيث تدمرها، والحضارة فتسقطها، لأنها كالرأس بالنسبة للجسد، فإذا صلح الرأس وعقل، يسكن الجسد ويسعد في حياته.

  • القيادة الربانية

ولذا نعتقد بوجوب تنصيب وتعيين القيادة من الله –تعالى- ولا يمكن أن تكون بتنصيب أو انتخاب البشر، فالبشر ينصّبون ويختارون الصالح أو الأصلح لهم وبالنسبة لحياتهم الشخصية، وأما أن يكون مَنْ ينصبوه مرضياً عند الله ومصلحاً وصالحاً فهذا دون إثباته خرط القتاد – كما في المثل العربي- لأن طبيعة البشر ناقصة، وتركيبته من الشهوات والميول والغرائز، وحبّه لنفسه و راحتها، وخضوعه للشيطان و وساوسه، وتسرعه وعجلته في أمره لأنه يخاف الفوت، وكل ذلك يجعل اختياره ناقصاً ومحدوداً ومتسرعاً، لأنه ربما يعلم شيئاً عن الحال الحاضر، ولكن علمه ومعرفته عن المستقبل وما يخبِّئه الغيب، فهذا علمه عند ربي في كتاب.

⭐ معرفة القائد هي معرفة النفس، وهي مقدمة لمعرفة الرَّب –سبحانه-، وإثارة للعقل، وتنبيه للفطرة، والعودة إلى الوجدان والضمير الحي في الإنسان

فالقيادة مسألة المسائل، وهي أصل القيم وأساس الفضائل في هذه الحياة، لذا بدأت رحلة البشرية في هذه الدنيا بالنبي آدم، عليه السلام، وستنتهي بالوصي الخاتم، وما بين المبدأ والمنتهى، لا شك ولا ريب بأن القيادة هي للأصلح والأعلم والأتقى والأنقى، كل ذلك لا يعلمه إلا الله –تعالى- الذي يعلم الغيب وما يخفى، ولذا نجد أن الباري –تعالى- لم يجعل أمر القيادة بيد البشر لأنهم “كل يُخفي ما أظهره فرعون“، كما في الرواية التي ينقلها سماحة السيد المرجع المدرسي، حفظه الله، عن والده السيد كاظم، رحمه الله، وقال ربنا في محكم كتابه: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص: 68)

فالبشر قاصر عن بلوغ تلك المنزلة الراقية في أن يختار الأصلح له في دنياه وأخراه، ولذا الخالق الحكيم نزع هذا الأمر منه وجعله مختصٌّ به سبحانه، فهو كالنبوة والرِّسالة تماماً، وله ما للنبي والرسول إلا ما استثني من مسألة الوحي الذي يأتي الرسول من السماء، وأما الولي فهو القائد الذي يأتي من بعد الرسول دون فاصلة، وله جميع صلاحيات وخصائص الرسول من العصمة الكبرى، والتسديد، والتأييد، والعلم اللَّدني، والسلامة والقوة في الجسم، والكمال والتمام بالفضيلة والأخلاق ليكون قدوة للأمة وأسوة لها، ولتأخذ عنه ما تحتاجه وتنقاد له طواعية ودون إجبار أو إكراه، لأن الرَّب سبحانه وتعالى جعل هذا الإنسان مختاراً وليس مجبراً ليحاسبه فيثيبه على إحسانه ويعاقبه على إساءته، وإلا بطل الثواب والعقاب أو وقع الظلم وهذا ما لا يمكن من قبل الحَكَم العَدل سبحانه وتعالى.

وهذا ما بينه الإمام الثامن من أئمة المسلمين الإمام علي بن موسى الرِّضا، عليه السلام، في حديث عبد العزيز في شأن الإمامة والإمام حيث يقول: “هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الْإِمَامَةِ وَمَحَلَّهَا مِنَ الْأُمَّةِ، فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ؟ إِنَّ الْإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ“، فالقيادة والإمامة والولاية هي من أمر الله، ومن شأنه ومختصاته وليس للبشر فيها دخل ولذا كل مَنْ خرج عن هذه القاعدة الذهبية فإنه كمَنْ خدَّر عقله، أو أجَّره، أو أغفله، أو أسكره وأنامه وترك قيادته لنفسه الأمارة بالسوء التي أوردته المهالك على كل المستويات وما يصدق على الفرد والأسرة يصدق على الأمة والحضارة أيضاً.

  • بيان الغدير الأغر

ومن هنا نعلم كم هو عظيم، و هام وضروري بيان الرسول الأعظم في يوم الغدير الأغر، حيث تبلورت القيادة الرَّبانية، ذلك حين نزل أمين الوحي جبرائيل، عليه السلام، بعد أن خان أمين قريش ورجالها الأمانة، وكتبوا بينهم الصحيفة الملعونة ودفنوها في الكعبة، و راحوا يخططون لاغتيال الرسول القائد ليصلوا إلى السلطة والحكم، فنزل الأمر من الله –تعالى- بالقطع والجزم واليقين مع التهديد والوعيد بما لم يكن له سابق ولا نظير، حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة: 67)

فامتثل الرسول الأعظم للأمر، و وقف من لحظته و أوقف و استوقف كل ذلك الجمع الغفير الذي يزيد عن المئة وعشرين ألف في تلك الصحراء، و وقت الهجير، وعملوا له منبراً من أحداج الإبل، فصعد عليه وألقى تلك الخطبة العصماء التي أوجز فيها الحديث عن أهمية الطاعة والانقياد لأمر الله ورسوله لأنه أولى بهم من أنفسهم، ولما أقروا بذلك أسهب بفضائل أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، ثم أمره أن يقوم فأخذ بيده ورفعها حتى بان بياض إبطيهما، أو أنه رفعه حتى يراه الجميع وقال: “مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَدِر الحَقَّ مَعَهُ حَيثًمَا دَارَ“.

ثم أشهدهم على ذلك وفي نهاية الخطبة، نصب لهم خيمة و فسطاطاً وأمرهم بالبيعة له بالرسالة، ولأمير المؤمنين بالولاية والإمامة والقيادة، فبايعه الجميع دون استثناء حتى النساء، ولم يتخلف منهم أحد إلا ذلك العبدري الذي طلب نزول العذاب فنزل عليه وضربه الله بحجارة من سجيل فأهلكه وعصم رسوله الكريم من الفتنة التي كان يخافها من بقايا وأتباع الجاهلية القرشية التي كان يخشاها.

  • وعي القيادة ضرورة حضارية

وبناء عليه فإن مسألة معرفة القيادة والإمامة والولاية في مقدمة وأساس كل المعارف الرَّبانية والعلوم السماوية، كما أن معرفة القائد وتشخيصه ومبايعته والتسليم له وطاعته في كل شؤون هذه الحياة هي من ضروريات الدِّين الإسلامي الحق، وأساسيات قيام الحضارة الإنسانية الراقية، لذا نهيب بشبابنا وأبنائنا الأعزاء أن يعرفوا قائدهم، ويبحثوا كثيراٌ وطويلاً عن مسألة القيادة والحجة والولاية لأنه رأس الأمر وأساس الفضائل والقيم ومَنْ عرف قائده ورائده نجا من الضَّلال والهلكة بإذن الله تعالى.

وهذا ما تؤكده الروايات المتواترة لفظاً ومعنى، حيث قال الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم: “مَنْ مَاتَ وَلَم يَعرِف إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّة“، أي أنه ما عرف ولا شمَّ ريح الإسلام العطرة، بل هو كأحد أفراد الجاهلية الجهلاء، في أي زمان ومكان عاش، أو كان هذا الجاهل لإمامه وسيده وقائده، فشأنه شأن أبو الجهل، وأبو لهب وغيرهما من أشقياء العرب وقريش في الجاهلية.

⭐ البشر ينصّبون ويختارون الصالح أو الأصلح لهم وبالنسبة لحياتهم الشخصية، وأما أن يكون مَنْ ينصبوه مرضياً عند الله ومصلحاً وصالحاً فهذا دون إثباته خرط القتاد – كما في المثل العربي- لأن طبيعة البشر ناقصة، وتركيبته من الشهوات والميول والغرائز، مع عجزه عن معرفة المستقبل

فمعرفة القائد، وتشخيصه، واتباعه والأخذ منه وطاعته هو في غاية الأهمية في هذا الزمن حيث أننا أمام تحديات مصيرية وربما وجودية لهذا الدِّين، وهذه رسالتكم ومهمتكم أيها الشباب المؤمن، فامتلكوا البصيرة النافذة، والوعي المرحلي، واعرفوا وتثقفوا بزمانكم وبالذي لم يمر على البشرية منذ أن خُلقت وإلى الآن ما نمرُّ به من تحديات ومعضلات الفتن التي تهدف مسخ الإنسان من نفسه وإخراجه من فطرته التي فطره الله عليها.

فمعرفة القائد هي معرفة النفس، وهي مقدمة لمعرفة الرَّب –سبحانه-، وإثارة للعقل، وتنبيه للفطرة، والعودة إلى الوجدان والضمير الحي في الإنسان، وكل ذلك لا يكون إلا بوعي ومعرفة القيادة والقائد الرَّباني وهو جوهر ولب وأصل وأساس بيان الرسول الأكرم في يوم الغدير الأغر، حين قال: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ)، فاعرفوا مولاكم وتمسَّكوا به، وأطيعوا أمره، لتسعدوا في حياتكم، وتنهضوا بأعبائكم، وتنقذوا أنفسكم وأمتكم.

فكل عام وأنتم من ماء الغدير الأغر تشربون، ومن منهجه تنهلون، ولقائدكم عارفون وتابعون ومطيعون، فبوك غديركم يا أبناء الغدير، وعشاق الأمير، فنعم الأمير أمير الغدير وحقكم.  

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا