هل ثمة علاقة بين العبادات اليوميّة وبين بناء الشخصية؟
أليست العبادات طقوساً دينية لا علاقة لها بنجاح الانسان في الحياة الدنيوية أو فشله؟
ثم كيف نستطيع أن نستفيد من هذه العبادات اليومية في تقوية شخصيتنا؟
إن الالتزامات الدينية اليومية هي مثل اللبنات في بناء البيت، فالذي يلتزم بأموره العبادية في كل يوم؛ فهو يبني شخصيته يوما بعد يوم، بالإضافة الى ما يحصل عليه من الثواب، وصدق أمير المؤمنين، عليه السلام، حينما قال: “العبادات فوز”، و “دوام العبادة برهان الظفر والسعادة”، وهي فوز في الدنيا قبل الآخرة.
إن العبادات تبني شخصية الانسان بناءً قوياً ومتميزاً و هي ـ بخلاف ما يحلو للبعض أن يصورها ـ سرّ التقدم والنجاح في الحياة العملية.
ولكن كيف يكون للعبادات هذه القدرة على البناء؟
- أولاً: العبادات حق و واجب
فمن حق الله أن يُعبد، وواجب على الانسان ان يعبد خالقه، يقول ربنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فعبادة الله ـ عزّ وجل- هي أداءٌ لأهم الحقوق على البشر، ومن يلتزم بهذا الحق فهو يبني نفسه على أسسٍ سليمة.
- ثانيا: اصلاح النيّة وتزكية النفس
إن العبادات بحاجة الى نيّة خالصة، ولذلك على الانسان ان يصلح نيته، ويعيد توجيه بوصلتها، فالأعمال يجب ان تتلون بصبغة الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وتكون خالصة له، ولذلك فإن الامام علي، عليه السلام، يقول: ” عوّد نفسك حسن النية وجميل المقصد تُدرك في مباغيك النجاح”.
⭐ الشخصية القوية هي التي تسيطر على المادة، ولا تسيطر عليها المادة، حيث أن الذي يتمحور حول المصالح الشخصية يتثاقل الى الارض، ولن يتمكن من السمو في الحياة
إن الذي يصلي صلواته الخمس، ويصوم شهر رمضان، ويؤدي حجّ بيت الله الحرام، ويعمل ذلك بنية التقرّب الى الله ولاكتساب رضاه، فإنه يزكي نفسه، وينقيها من شوائب الماديات، ويصحح مسيرته.
كل ذلك؛ عوامل لتقوية الشخصية، لان الشخصية القوية هي التي تسيطر على المادة، ولا تسيطر عليها المادة، حيث أن الذي يتمحور حول المصالح الشخصية يتثاقل الى الارض، كمن يهتم كثيراً بالعقارات، فهو يعبد هذه الاشياء، بينما في العبادات يتسامى المرء على الدنيا وما فيها، وينطلق الى المعارج التي تسمو بالانسان الى المستوى اللائق به، ومن هنا قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “الصلاة معراج المؤمن”.
وكذلك فيما يرتبط ببقية العبادات فإن لها تأثير كبير في بناء الشخصية، كما انها تزكي نفسية الانسان، وتعطيه التقوى، التي هي جوهر العبادات، يقول ربنا: {لعلكم تتقون}، والتقوى في الحقيقة هي قوة الانسان في شخصيته، فالذي يتقي ربه لا ينحرف، ولا يرتكب الموبقات، ولا يظلم عباد الله، ومن ثمّ، فهو إنسان مسيطر على أفعاله، وصاحب شخصية قوية.
- ثالثا: العبادات والالتزام بالوقت
إن أداء العبادات يعلّم الانسان الالتزام بالوقت، وهو من أهم عوامل الفلاح، ولذلك فإن مشكلة ضِعاف الشخصية في عدم التزامهم بالوقت والزمن، فالضعيف إذا وعد أخلف، وإذا التزم لا يعمل، وإذا دخل في عهد مع غيره ينقضه، أو كما تعبر الرواية: “إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان”، فالعبادات تعلّم الانسان أن يلتزم بالوقت فيما يرتبط بأداء الواجبات.
إضافة الى ان اوقات الصلاة بشكل خاص، واواقات العبادات بشكل عام تمّ اختيارها من قبل البارئ بحكمة بالغة، فصلاة الصبح ـ مثلاـ لابد أن تؤديها ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، أي ان تستيقظ في هذا الوقت المبكر، وتجبر نفسك على ذلك: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ}، وبذلك تسيطر على سلطان النوم، وتستيقظ في الوقت الذي يستيقظ فيه الكون، فلا تكن شاذاً عن الاشجار والنباتات، والحيوانات، والشمس والارض وما فيها، فكما ان الطبيعة التي خلقها الله تستيقظ صباحا تستيقظ أنت ايضاً.
وإذا درست تاريخ الناجحين تجد انهم لم يكونوا كُسالى في الاستيقاظ الصباحي، فكل العظماء كانوا يستيقظون مبكرين، ولا يسمحون للنوم بالسيطرة عليهم وبذلك تفوتهم الفرص، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “ما أنقض النوم لعزائم اليوم”.
أما صلاتي الظهر والعصر فهما في منتصف النهار، وانت في حالة الصلاة تقوم بتنظيف نفسيتك من شوائب الحياة.
إن الانسان حينما يعيش في ظهراني الناس يرين على قلبه الكثيرمن الآثام، فيحتاج الى ان ينظف ذلك من خلال أداء الصلاة في منتصف النهار، ثم يؤدي صلاتي المغرب والعشاء، حيث نهاية النهار وبداية الليل، كأنك تأكد عبوديتك لربك صباحا، وظهرا، ومساء.
⭐ أداء العبادات يعلّم الانسان الالتزام بالوقت، وهو من أهم عوامل الفلاح، لذا فإن مشكلة ضِعاف الشخصية في عدم التزامهم بالوقت والزمن، فالضعيف إذا وعد أخلف، وإذا التزم لا يعمل، وإذا دخل في عهد مع غيره ينقضه
لقد أسلم رجل بريطاني اسمه “هيدلي” وكان عضوا في مجلس اللوردات البريطاني، وهو المجلس الذي تعيّن اعضاءه الملكة، وكان من أحفاد ملوك ويلز، أعلن اسلامه حينما اكتشف صلاة المسلمين، وقال في تبرير ذلك: “قلت في نفسي ذات يوم: أنا عبد الله، ولابد أن أؤدي واجب العبودية في كل يوم، بينما لا يُطلب مني الذهاب للعبادة عن طريق الكنيسة في الاسبوع إلا يوما واحدا، ولو أنني كنت موظفاً عند شخص؛ كان عليَّ أن أذهب اليه في كل صباح، وفي منتصف الدوام، وفي نهايته حتى أسأله عما يجب عليَّ فعله، بينما في المسيحية لا تجد العبادة إلا يوماً واحداً في الاسبوع، وعن طريق الكنيسة، وهنالك ايضا نتلو بعض الادعية ثم نخرج، بينما صلاة المسلمين هي خمس مرات في اليوم، فعرفت ان هذا دينٌ نزل من رب العباد حيث يربطنا بنفسه خمس مرات خلال النهار.
ويضيف قائلا: إن الدين الصحيح هو الذي يجعل المرء يعبد الله طوال مدة الحياة لا أيام الاحد فقط؛ فالصلوات وهي من الواجبات الاساسية في الدين تنظم حياة الانسان وتعوّده على الالتزام بالوقت.
- رابعا: التحكم في الذات
العبادات تدرّب الإنسان على التحكم في ذاته، فلا يسمح الانسان لنفسه بالانفلات وممارسة كل ما يحلو لها، وعن طريق هذه العبادات يصبح الانسان قادرا على السيطرة على الانفعالات، وتوجيه الشهوات، وقيادة نفسه، دون ان يسمح لشهواته ورغابته بأن تقوده.
أليس الكثير من مشاكل البشرية اليوم يعود بسببها الى قيادة الشهوات والرغبات، فما أكثر الذين يفقدون حياتهم ومستقبلهم بسبب شهوة هنا، و رغبة هناك؟ أليس: “أول الشهوة طربٌ وآخرها عطب”؟
إن العبادات تدريب عملي وتوجيه حقيقي للشخصية، لكي يصحح الانسان المعادلة المعكوسة التي بداخله، فبدلاً من كون الرغبات هي التي تقوده، يصبح الانسان بروحه وعقله قائداً لرغباته وبذلك يحقق النجاح.
فعلى سبيل المثال نجد ان الصوم يبني شخصية لا تخضع للرغبات والشهوات، ذلك أن الشخصية القوية هي التي تسيطر على رغباتها، وشهواتها، فالصوم تمرين على السيطرة على الشهوات والرغبات في الاتجاه الصحيح، فأنت مع جوعك وعطشك الأشد احيانا في أيام الصيف، لا تقترب الى الماء، ولا تفكر في شربه، ولا تحاول أن تأكل طعاماً، حتى ولو لم يكن أحدٌ يراك، أن الصيام تدريب على طاعة الله عز وجل، والالتزام بمنهجه، ومن ثم الحصول على النتائج الطيبة لهذه العبادة.