“إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب”
الامام محمد الباقر، عليه السلام
إنه أسوء مكان يتصوره الانسان أن يكون فيه، فهو مدعاة لتجميد الحرية و الارادة، والانتقاص من الشخصية الاجتماعية، فعندما يخرج من السجن، يُقال: “كان سجيناً”، ومن الناحية القانونية تلاحقه وصمة السجن اذا ما اراد تمرير معاملة رسمية فيُكتب في ملفه؛ “ذو سابقة جنائية”، مع كل هذا نرى ثمة من يحكم على نفسه بسجنٍ أبشع من التوقيف في مركز الشرطة، وقضاء محكومية خلف القضبان الحديدية، لأنه سجن غير مقيّد بزمان، يحمل صاحبه القيود والقضبان معه في قلبه أينما حلّ وارتحل، ربما الى فترات طويلة من حياته، وربما يأخذه معه الى قبره!
أمرٌ مريع هذا الحسد الذي يصاب به البعض فينمو في نفوسهم، ويتغوّل لتكون له اليد الطولى في إصدار القرارات والاحكام على الاخرين، كما تقرير مصير صاحبه نفسه، أين يجب ان يكون؟ وما عليه فعله؟ بقطع النظر عن نوع الطريق؛ حقاً كان أم باطلاً، صواباً كان أم خطأ.
لماذا الحسد؟
البذرة الاولى في السماح لمشاعر الأنا وحب الذات بالتسلل في النفس وتلويث القلب، فتجعل الانسان يعيش ضمن حدود نفسه ولا يعترف بالآخرين، ويريد كل شيء لنفسه، حتى الحقّ؛ فهو دائماً الى جانبه لا الى جانب الآخرين، وعندما يخوض المحاججة مع الادلة والبراهين ويثبت خطأه وتنكشف أوهامه، يلجأ الى الحسد لينتقم من الناجحين والمتفوقين عليه، ويرضي فشله ليكون مبرراً ومريحاً بالنسبة له.
وقد بيّن المعصومين، عليهم السلام، معنى الحسد لنكون على حذر بالغ منه، وهو أن يتمنى المرء زوال نعمةً عند جار له او صديق، بل حتى قريب ذو رحِم، ومن أكثر ما يشعل نار الحسد لدى البعض بوجود النعم الإلهية لعظمتها وكبر حجمها وتأثيرها في الواقع الاجتماعي، مثل المال، وبعض الملكات والخصوصيات، كأن يهب الله –تعالى- لشخص “بسطة في العلم والجسم” –مثلاً- أو تنتفح امامه فرص الاثراء والنجاح في العمل التجاري، وايضاً في مسيرة التعليم.
⭐ للأسف، نلاحظ هبوط مستوى التفكير ليدفع البعض للتجول بنظراته على ملابس هذا او دراجة ذاك، أو هذا يسافر بالطائرة هذه السنة بعد ان كان يسافر بالحافلة، بل حتى بلغ الأمر أن نشهد الحسد يلتهم بناره الاولاد الصغار في سلوكهم المؤدّب
ولعلها الحكمة الإلهية البالغة في أن يكون أول درس للبشرية بعد الخداع والتضليل في قصة أبونا آدم، عليه السلام، والشجرة وابليس، هو درس الحسد الذي سقط فيه قابيل سقوطاً مريعاً بقتل أخيه هابيل بسبب عدم تقبّل قربانه لله –تعالى- فيما تقبل الله قربان هابيل، فأعلن صراحة: {لَأقتُلنّك}! فالمنزلة الرفيعة التي خسرها قابيل لم تدعه يفكر لحظة واحدة في السبب، او محاولة التعويض والاصلاح، إنما قفز على الاسباب وفرص الاصلاح الى حيث المواجهة المباشرة، وحسب الروايات، فان ابليس هو الذي علّم قابيل كيف يقتل أخاه غِيلةً خلال النوم بإلقاء حجرة كبيرة على رأسه بتوهم منه أنه سيلغيه الى الابد من طريقه ويكون هو المميز والمتفوق! ولكن فور ارتكابه الجريمة {أصبَحَ مِنْ النَادِمِينَ}، بل تحول الى أيقونة الحسد والندم للبشرية جمعاء على مر الزمن.
وللأسف، نلاحظ هبوط مستوى التفكير ليدفع البعض للتجول بنظراته على ملابس هذا او دراجة ذاك، أو هذا يسافر بالطائرة هذه السنة بعد ان كان يسافر بالحافلة، بل حتى بلغ الأمر أن نشهد الحسد يلتهم بناره الاولاد الصغار في سلوكهم المؤدّب، وملبسهم النظيف، الى جانب الجمال الأخّاذ لدى البعض منهم.
وللعلم؛ فان البشر متساوون في الحياة من حيث العقل والقدرات البدنية بشكل عام، وقد وهب الله –تعالى- بعدالته كل شيء للجميع، إنما مشكلة البعض في سوء استخدامه للنعم الإلهية وفشله في استثمار ما لديه، او التصرف فيه، فيمكنه أن يكون ثرياً، او ان يكون ناجحاً في الدراسة، او يكون موفقاً في أعماله، وفي اختياره الزوجة الصالحة وما أشبه من مسائل الحياة الدنيا، ولكن الكسل، وحبّ الأنا، والغرور، تحوّل نعم الله عنده رماداً، فيتملكه شعوراً مريراً بالتعاسة، ويتحول من انسان سويٍ يمكن ان يفيد نفسه ومجتمعه، الى فرد يقدم على “قتل الآخرين في نفسه قبل ان يقتلهم مادياً”، (الاخلاق عنوان الايمان ومنطلق التقدم- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي)، فيتمنى موتهم في داخل نفسه، وإن لم يكن هو المسبب المباشر.
- علاج بسيط
القرآن الكريم يرسم لنا خطين متوازيين نسير عليهما للابتعاد عن هذه الحالة المرضية: التقوى والإيمان
ففي قصة الأخوين؛ قابيل وهابيل، يبين لنا الله –تعالى- أن أزمة التقوى لدى قابيل هي التي دفعته لقتل أخيه، رغم إن أخاه نبّهه ليعالج أزمته؛ {إنما يتقبل الله من المتقين}، ولكن المشكلة كانت أعمق من هذا، لأن الانسان بحاجة لتعميق وترسيخ هذه الصفة لتكون ملكة ذاتية في نفسه، بدءاً من تقوى النظر على المحارم، ثم تقوى السمع، ومن ثمّ التقوى في العلاقات الاجتماعية في حالات واشكال مختلفة، منها؛ المال.
فالذي يسعى لأن يتحلّى بصفات المتقين يجد نفسه محصناً من الانزلاق في هذا الوادي، كما يستشعر الحصانة من ارتكاب معاصي ومحرمات عدّة في حياته. وما علينا إلا مراجعة صفات المتقين التي كشفها أمير المؤمنين، عليه السلام، في كتاب نهج البلاغة، لنختبر قدراتنا على التحلّي ببعضها او جميعها حسب القدرة والاستطاعة، ولتمنحنا المناعة الكاملة من مرض الحسد.
أما الإيمان فهو كل شيء بالنسبة للإنسان الذي يعتقد جزماً أن كل ما لديه ولدى الآخرين وفي السموات والأرض من الله –تعالى-، وأن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وأنه غنيٌ عن العالمين، وليس لديه محاباة لهذا دون ذاك في الرزق او العلم او السلامة، فاذا توفر الإيمان في القلب، ولو بنسبة معينة يكفي لقتل الحسد، لذا جاءت الآية الكريمة صريحة في هذا المجال: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}، فاذا رزق هذا بالذرية، و حُرم ذاك منها –مثلاً- فهذا يعني أن ثمة اختباراً في المسألة وليست محاباة بالمطلق، وحاشا لله –تعالى- من هذا، فالانسان المؤمن يعرف أنه مرزوق من حيث لا يحتسب في أمور لا يستشعرها في حياته، وربما يفتقدها ذاك المرزوق بالذرية أو من لديه الاموال والتجارة الرابحة، ربما أبرزها؛ السلامة، او أمور ايجابية كبيرة في قادم الأيام، إنما المشكلة لدى الانسان بشكل عام، استعجاله الأمور، والحصول على مايريد سريعاً.
⭐ الإيمان نقيض الحسد، ولا يمكن ان يجتمعا ابداً، وهي حقيقة أكدها الاسلام على لسان الامام الباقر، عليه السلام: “إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب”
إن الايمان بالله –تعالى- والتوكل عليه على طول الخط، يجعل صاحبه في غنىً كامل، مهما كان حرمانه، ومهما يرى من الخير وما يفتقده موجوداً عند الآخرين، والقريبين منه، وربما يدفعه ايمانه ليكون داعية لهم الى الله بالزيادة، مع إظهار الودّ والامتنان قلباً وقالباً لهم، لأنه يعلم بإيمانه القاطع والراسخ أن الله –تعالى- هو الرزاق وهو العادل والرحيم بعباده، فلا يدع عبداً في نكبة او شدّة إلا وفتح له طريقاً للتعامل مع هذه الشدّة وحلّها.
ولذا كان الإيمان نقيض الحسد، ولا يمكن ان يجتمعا ابداً، وهي حقيقة أكدها الاسلام على لسان الامام الباقر، عليه السلام: “إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب”.
هنا نكون قد ثبتنا اقدامنا وسط الجماعة، فبات كل شيء يصدر منّا له حصة للآخرين، وقد أكد هذه الحقيقة النفسية الرائعة؛ سماحة المرجع المدرسي في مؤلفه القيّم بأن “الذي يفكر بالجماعة لا يفكر بالحسد ابداً”، وأكثر من هذا ينطلق في رحاب العلاقات الاجتماعية المتماسكة والمتطورة بحيث يكون مصداق حديث الامام الصادق، عليه السلام: “من دعا لاخيه بظهر الغيب وكل الله به ملكاً يقول: ولك مثلاه”. فهل بعد كل هذا يستحق أن يحكم البعض على نفسه بالسجن؟!