-1-
«إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِر»(1)
بهذه العبارة المختصرة ردّ أمير المؤمنين، عليه السلام، على نظريات الفوضى السياسية التي كان الخوارج يتبنونها، حيث أكّد، عليه السلام، على ضرورة وجود قيادةٍ تكون محل القطب من الرحى في أي تجمعٍ بشري، إذ الفوضى التي دعا إليها اولئك القوم لم تقدّم للبشرية سوى الدمار والتخلف.
وهكذا، نجد البشرية اليوم لم تتفق على شيء، كاتفاقهم على ضرورة وجود قائدٍ تكون له كلمة الفصل في الخلافات، وله مرجع العباد في المشاكل، وعليه مسؤولية توفير الأمن والرفاه لهم، والحفاظ على ثغورهم من اعتداء المعتدين. وهذه المسؤوليات لا يقوم بها سوى من توفرت فيه صفات معينة تؤهله للتصدي لهذا الأمر الهام.
ومن هنا؛ بدأت البشرية بالتنظير في هذا الشأن، حيث راحوا يبحثون عن صفات القائد، ودوره في الأمة، ومسؤولية المجتمع في قباله، وقد سبقتهم شرائع السماء زماناً ومنهجا، حيث لم تؤكد الرسالات الإلهية بضرورة القيادة فحسب – كما مرّ- بل أكدت على أن يكون القائد ربانياً، ومعنى ذلك أن يكون مؤيداً من قبل السماء، ومن هنا جاء في الحديث عن الإمام الرضا، عليه السلام، مبيّنا حكمة القيادة ودورها في الأمة: «أَنَّا لَا نَجِدُ فِرْقَةً مِنَ الْفِرَقِ، وَلَا مِلَّةً مِنَ الْمِلَلِ، بَقُوا وَعَاشُوا إِلَّا بِقَيِّمٍ وَرَئِيسٍ، لِمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَمْ يَجُزْ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَلْقَ مِمَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَلَا قِوَامَ لَهُمْ إِلَّا بِهِ. فَيُقَاتِلُونَ بِهِ عَدُوَّهُمْ، وَيُقَسِّمُونَ بِهِ فَيْئَهُمْ، وَيُقِيمُ لَهُمْ جُمُعَتَهُمْ وَجَمَاعَتَهُمْ، وَيَمْنَعُ ظَالِمَهُمْ مِنْ مَظْلُومِهِمْ ..»(2)، فلا يترك الله سبحانه الحكيم الناس بلا قيادةٍ توجههم نحو ما يصلحهم وتحذرهم ما يهلكهم، إذ إقتضت حكمة الله سبحانه – التي تجلت في كل شيء – ألّا يدع الإنسان – الذي جعلت فيه مؤهلات التقدم الحضاري – يعيش الهمجية دون أن يبعث إليه رجالاً لهم مؤهلات تجعلهم أهلاً لقيادة البشرية.
-2-
غياب القيادة، فوضى ودمار، ويساويه في ذلك عدم انصياع المجتمع للقائد الرباني، فكما لا ينتفع الناس بالطبيب إلا باتباع تعاليمه، وبالعالم إلا باتباع نصحه، كذا لا يمكن للناس أن ينتفعوا بالقائد الصالح إلا إذا إلتفوا حوله وأطاعوا أمره.
وتزداد الضرورة حين تكون القيادة السياسية في الأمة هي ذاتها القيادة الدينية، بمعنى؛ تكون الولاية للنبي أو الوصي أو من يسير في خطهم، حيث تصطبغ القيادة حينئذٍ بصبغة الإيمان بالله سبحانه، ومن ثمّ فترك القائد وحيداً أو عصيان أوامره سيؤدي إلى أن يُغرم المجتمع غرامتين: اولاهما؛ عصيان أوامر من أمر الله سبحانه بطاعته، الأمر الذي يؤدي إلى فساد آخرتهم، والثاني؛ فساد دنياهم بسبب الفوضى.
-3-
كان بنو إسرائيل، يعيشون حالة اللاقيادة الصالحة خلال حقبة الاضطهاد الفرعوني، فأنقذهم الله سبحانه بالنبي موسى، عليه السلام.
ولكن لم تدم الأمور طويلاً – كما مرّ الحديث عنه – حتى ابتلوا بأمراضٍ اجتماعية عدة، أهمها عدم الإنصياع للقيادة الربانية المتمثلة بالنبي موسى، وأخيه هارون، عليهما السلام، مما منعهم من التقدم، بل وأدى بهم إلى عقوبات إلهية.
وفيما يلي نورد نماذج من حالة إيذاء القيادة وعدم الإتباع لها، يذكرها القرآن الكريم في إطار بيان قصص بني إسرائيل.
1-3: دخول الأرض المقدسة، وعصيان القيادة صراحة
بعد خروجهم من مصر وعبورهم البحر، أمرهم الله سبحانه أن يدخلوا أرض فلسطين «الأرض المقدسة» وإن كلّف الأمر قتال القوم الجبّارين، ولكن تصورهم الخاطئ عن الأنبياء القادة، بأن عليهم توفير كل شيء لهم، وجعلهم يعصون الأوامر الإلهية الصريحة، فامتنعوا من الدخول رغم محاولة بعض الحواريين إقناعهم بالطاعة، لأنهم – كأغلب الناس – يريدون الدين مطيّة للوصول إلى المصالح، أما الدين الذي يطالبهم بالتضحية والعمل فلا، ومن هنا كانت عاقبة عصيانهم أن ابتلاهم الله سبحانه بالتيه أربعين عاماً، مضافاً إلى تبرؤ النبي موسى، عليه السلام، منهم.
قال الله سبحانه:
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، (سورة المائدة: 21- 26).
تكرر منهم رفض الطاعة أكثر من مرة – كما يظهر من الآيات القرآنية – فمرة بعد أمر موسى لهم، ومرة بعد محاولة بعض الحواريين إقناعهم، وفي المرة الثانية استخدموا أنواعاً من التأكيد في رفض دخولهم بتعبيرات مثل «لن» و «أبداً» و «إنا ههنا قاعدون».
وكانت النتيجة أنهم وصلوا إلى حضيض الفسق، فتبرأ منهم النبي موسى، عليه السلام، وعاقبهم الله سبحانه بعقاب التيه، إذ «إن أخطر بلاء ينزل على الأمة اللامسؤولة التي تلقي بأعبائها على كاهل قيادتها وتتقاعس عن العمل هو: حرمانها من تلك القيادة، حيث ينفصل عنها قادتها المصلحون بعد التأكد من أن لا رجاء في إصلاحهم».
أما الجزاء الثاني: «فهو البقاء في التخلف لأن هذه الأمة لم ترض بدفع ضريبة التقدم وهي الجهاد، لذلك كان جزاء بني إسرائيل عندما تقاعسوا عن حرب الجبارين أن بقوا في التيه، كما أن جزاء كل أمة لاتتبع قيادتها الرسالية، هو بقاؤها في مستنقع الضلالة والتخلف حتى تعرف أهمية القيادة، وتعود إلى رشدها»(3).
2-3: البقرة؛ قصة التهرّب من أوامر القيادة
أطول سورةٍ في القرآن الكريم سُميّت باسم «البقرة» لورود قصة البقرة فيها، فما كانت قصة البقرة؟
تلخصت القصة في محاولة تهرب بني إسرائيل عن تطبيق أمر القيادة الربانية، المتمثل بذبح بقرة، دون أن يذكر لهم النبي – بأمر الله سبحانه – الحكمة من وراء هذا الأمر، فصار القوم يتشبثون بالقشور والتفاصيل دون أن يمتثلوا للأمر الإلهي.
والقرآن الكريم يبين فصول هذه القصة بشيء من التفصيل حيث قال الله سبحانه: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلين}، (سورة البقرة: الآية 67).
فالأمر بالذبح ليس من عند موسى، عليه السلام، لرغبةٍ خاصة منه، بل هو أمر الله سبحانه، ولكن بدل أن يمتثل القوم لأمر الله، تساءلوا عن مدى جديّة الأمر، وهل يتخذهم النبي عليه السلام هزوا؟!
إن ضعف إيمانهم بالرسول جعلهم يتساءلوا عن مدى جدية الأمر، فأجابهم النبي موسى، عليه السلام، بأنه ليس هازئاً، و استعاذ بالله أن يكون من الجاهلين الذين ينتهي بهم جهلهم إلى الاستهزاء بتعاليم السماء.
ثم قالوا – كما حكى القرآن الكريم-: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِك فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}، (سورة البقرة: 68).
«وهنا بدأت سلسلة التساؤلات التي استهدفت معرفة خلفيات الحكم وأهدافه البعيدة المختلفة، قَالُوا ادْعُ﴿لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ﴾ هل هي بقرة كسائر الأبقار؟ أم هي بقرة معينة؟ وهنا شدد الله عليهم وقال لهم موسى: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ﴾ قد أكلتها السنون ووأنهكتها الحياة. ﴿وَلا بِكْرٌ﴾ صغيرة السن. إنما هي بين البكر والفارض مما عبر عنه القرآن بـ ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾، ثم شدد عليهم بتطبيق الأمر بحزم وقال:﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾(4).
وقصة البقرة نموذجٌ جليٌ، لمحاولات الأمة للتهرب من الأوامر ومجادلة القيادة بدل طاعتها، يقول المرجع المدرسي – دام ظله -: «وقصة البقرة تدل على أن بني إسرائيل لم يصبحوا آنئذ كفارا بالرسالة جملة واحدة، بل بالعكس كانوا يريدون تطبيق تعاليم الله. بيد أن التردد والضعف كان واضحاً في تصرفاتهم مما يجعلهم يؤخرون تنفيذ الواجبات تحت غطاء التشبث بقشور التعاليم. فهم كانوا يتساءلون عن لون البقرة وطبيعتها، ومقدار عمرها، وسائر خصائصها، في حين أنهم تركوا الجوهر وهو ذبح البقرة، كذلك الأمة الإسلامية في بعض مراحلها المتأخرة من تاريخها، كانت تتوغل في التفاصيل وتترك روح التعاليم والأهداف المتوخاة من ورائها»(5).
3-3: اتهام القيادة للهروب من الفشل
تختلف نظرة الناس إلى القيادة اختلافاً كبيراً، فحيث يرى البعض القيادة الربانية موجهة للجهاد والعمل من أجل التحرر والتطوير، يرى البعض الآخر القيادة أنها تحل مشاكل الحياة بدلاً عنهم.
وهذه النظرة الخاطئة، هي نظرة الكثيرين إلى الدين أيضاً؛ فإذا الدين لا يحل مشاكلهم، صبّوا عليه جام غضبهم، وكفروا به وبقيادته كما يفعل المسلمون اليوم الذين نبذوا الدين لأنه لم يمنحهم الرفاهية، بينما السبب في تخلفهم يقع عليهم، وعلى تقاعسهم عن العمل الصادق.
وقد فعل مثل ذلك بعض بني إسرائيل حيث كانوا يلقون باللائمة على النبي موسى، عليه السلام، في ساعات العسرة، وكأن النبي موسى، عليه السلام، مسؤول عن رفاههم الدنيوي، والحال أنه كان نبياً من عند الله، مسؤولٌ عن تبليغ رسالته ليس إلا، قال الله سبحانه عن لسان بني إسرائيل:
{قالُوا أُوذينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون}، (سورة الأعراف: 129).
إنهم كانوا يبحثون عن الرخاء، ولما وجدوا أن طريق الإيمان صعبٌ صاروا يعترضون على القيادة، ولكن النبي القائد ذكّرهم بأنهم يواجهون الإمتحان، وليس عليهم أن يفقدوا إيمانهم بسبب المشاكل.
حقاً إن عدم معرفة الناس بمقام القيادة ومسؤولياتها ومسؤولياتهم تجاهها، تجعلهم يؤذون القيادة الربانية من حيث يشعرون أو لا يشعرون، الأمر الذي قد يؤدي إلى خسرانهم نعمة القيادة الصالحة، قال الله سبحانه: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَني وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقين}، (سورة الصف: 5).
4-3: أزمة القيادة المُتبعة
لم تكن الأمة الإسلامية بدعاً من الأمم السابقة، فهي الأخرى عايشت قيادات ربانية؛ بدء من النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، ومروراً بأوصيائه المعصومين وإنتهاءاً بالعلماء العدول المتصدين، ولكن لم يكن تعامل الامة – في أغلب الأحيان – تعاملاً يتصف بالصواب، فربما خالفوا أوامر النبي أو الوصي، عليهم السلام، مباشرةً أو من خلال التهرب عن الطاعة عبر التشبث بالقشور، أو إيذائها عبر إلقاء اللائمة عليها في المصاعب. ويبدو أن خطوات النبي موسى، عليه السلام، كانت جبّارة في معالجة هذا المرض الخطير في المجتمع، كما أن آيات القرآن ونصوص الروايات أشارت إلى تلكم المعالجات أيضاً، حيث تحتاج الأمة في علاقتها بقيادتها أن:
1- تتعرف على قادتها ومقامهم عند الله سبحانه، كي يسهل عليهم طاعتها.
2- تتربى على الطاعة التعبدية لأوامر الله سبحانه والتسليم لها، للتدرّج على التسليم لأوامر النبي وأهل بيته والفقهاء العدول، فكما أخفى الله سبحانه الحكمة من ذبح البقرة، أخفى حكمة الكثير من أوامره للأمة الإسلامية.
3- معرفة الأمة مسؤوليتها في الحياة، كيلا تتوقع من القيادة أكثر من مسؤوليتها ومن ثم تلقي باللائمة عليها.
————————————