في ظلام الليل وهدوئه، حينما سكنت الاصوات والعوالم كلها آوت الى محال استراحتها، يخرج فينظر الى النجوم التي تتلألأ بجمالها وكمالها، ويتساءل ما هذا الخلق؟
ما هذا الجمال؟
ما هذا الكمال؟
ما هذه الدقة؟
هكذا كان نبينا الاكرم، صلى الله عليه وآله، فحينما ينظر الى كل عظمة الكون وروعته، وكل الحكمة البالغة، والكل يتساءل: هل هناك هدف؟
هل هناك حكمة؟
اختلاف الليل والنهار وراءه حكمة بالغة؛ فالليل يحقق هدفا وهو السكون، والراحة، والظلام، والنهار يحقق أهدافا أخرى ألا وهي الحركة والنشاط والحيوية، فما دام أن كلَّ شيء له هدف وحكمة من وجوده، فهل وجود الإنسان دون هدف؟!
الوجود المتكامل الذي فيه حقائق جميع الكون: أتزعم انك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر، في لمحة بصر، واشراقة في النفس، يصل الى نقطة محورية وهي: أنا الانسان وُجدتُ لهدف وحكمة، وإذا لم اسعَ لتحقيق هذه الحكمة فسيكون هناك عذاب شديد ينتظرني، هنالك يقول ربنا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وهذه هي النقلة النوعية، والاشراقة الايمانية والعرفانية من خلال نظرته الى النجوم، واختلاف الليل والنهار، الى معرفة أنه لم يُخلق عبثا، ولن يترك سدى، ويجب ان يحقق الهدف، وإذا قصّر في هذا الامر قليلا ام كثيرا فالنار تنتظره.
لكن السؤال: كيف الخلاص من النار؟
الخلاص من النار يكون بالعمل في هذه الحياة، والسعي لتحقيق الهدف الذي خُلقنا من أجله، يقول ـ تعالى ـ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، نحن مهما اويتنا من علم وحكمة لا يمكن ان نصل عمق هذه السماوات والارض؛ ملايين المجرات، وفي كل مجرة ملايين الشموس، وبعض تلك الشموس أكبر من شمسنا بعشرات المرات.
⭐ الحياة مدرسة؛ فالانسان بإمكانه أن يتخذ كل شيء فيها مدرسة له، ومن خلالها يتكامل، وتتسامى روحه
{لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} اللب صاحب العقل، وهو الذي ينفذ الى اللب ولا يكتفي بالظواهر السطحية.
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}، فأولي الالباب يذكرون الله على كل حال؛ في حالة القيام،و القعود، وحينما يضطجع ايضا يذكر الله ليتفكر لا بصورة سطحية: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، فالتفكّر يصل بهم الى النتيجة: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فما من نجم خُلق باطلا، وكذا بقية المخلوقات الكونية، فكما ان كلّ شيء في الكون لم يُخلق باطلا، كذلك الانسان لم يخلق بلا هدف وغاية، بل خُلق لهدف عظيم، وإذا حقّق الهدف فطوبى، وإذا لم يسعَ لتحقيق هدفية الخلقة فالجزاء هو النار.
الحياة مدرسة؛ فالانسان بإمكانه أن يتخذ كل شيء فيها مدرسة له، ومن خلالها يتكامل، وتتسامى روحه، وهو يتعالى الى الله ـ تعالى ـ، والمؤمن حينما ينظر الى النجوم، والى الحياة التي تتطور، كذلك هو يتطور، وكل يوم يقفز قفزة الى الأمام ولا يبقى على حالة واحدة، لان الحياة مدرسة بالنسبة للمؤمن.
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} الانسان يريد الراحة، ويخاف ان يحترق جسمه في جهنم، وهو هنا في الدنيا لا يحتمل ناراً بسيطة، ولا يتحمل ايضا اشعة الشمس البعيدة، فكيف يتحمل نار الآخرة، لكن الأعظم من ذلك هو الخزي، والعار، والذي يُعد من عذاب النفس، لان النفس اهم من الجسم، فأهل الجنة يرون اصحاب النار، ويسألونهم عن السبب الذي اوصلهم الى جهنم، ثم يقول اصحاب النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، هذا هو الخزي!.{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
⭐ الايام والساعات تتلاحق، ونحن أمام تجربة عظيمة، وهي كيف نتحول الى رساليين بصفاتنا، وافكارنا
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} هنا لحظة التحول الذاتي، والمنادي رسول الله، صلى الله عليه وآله، والأئمة الطاهرون، والعلماء، وهدف النداء: أن آمنوا بالله، {فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}، فالذنوب تغفر، ولعل السيئات هي الصفات غير الجيدة، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} اهم شيء ان الانسان يحرز ويضمن عاقبته ومصيره، فكثير من الناس عاشوا حياة ايمانية، لكنهم ماتوا ميتة شيطانية.
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} فالله ـ تعالى ـ يعلم كل عمل يقوم به المؤمن، ولا يمكن أن يضيع أي عمل صالح. {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فلا فرق بين الرجل والمرأة، لكن بشرط: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} اول هجرة من الانسان هجرة السيئات، فالمؤمن ينظر الى المجتمع فإن كان صالحا يندمج معه، اما إذا كان المجتمع فاسدا فيجب هجرانه، وذلك بالابتعاد عنه نفسيا، بعد ذلك تأتي الهجرة الجغرافية، {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الخروج من الوطن صعب، {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}.
فإذا قام الانسان بهذه الشروط؛ آمن وهاجر واوذي، وقتل في سبيل الله تكون النتيجة: {وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}، والمؤمن الذي يريد ان ينتقل من وضعه الحالة الى ما هو أفضل منه، ويسعى للحصول على الشخصية الايمانية الرسالية، عليه ان يستقبل مجمل الواجبات الشرعية؛ فيصلي، ولا يزكي، ويحج ولا يجاهد..، فالمريض حين يذهب الطبيب لأخذ وصفة علاج، فلا يستطيع المريض ان يقبل بنصف الوصفة ويرفض النصف الآخر.
والعمل بالواجبات هي الوصفة الالهية للإنسان الكامل ومصداق ذلك الانسان هو النبي الأكرم، وأهل بيته، وابناء الآئمة، واصحابهم، فمثلا علي الأكبر، عليه السلام، يصفه الإمام الحسين، عليه السلام، بأنه “اشبه الناس خَلقا وخُلقا ومنطقا برسول الله”، وأمثاله العباس، واخوته، فهؤلاء انتقلوا نقلة نوعية من حالة الى حالة أخرى.
الشخصية الإيمانية الرسالية هي من تقتدي بالنبي الأكرم، الذي هو إمام ونبي في نفس الوقت، وكذلك الائمة، عليهم السلام، قدوات للشخصية الرسالية، فنحن أمام برنامج كبير، وثروات هائلة من القدوات، بدأً من النبي الاكرم، وأمير المؤمنين، والحسن، والحسين، عليهم السلام، وختاما بالإمام المهدي، عجل الله فرجه.
الحياة تمضي سريعا؛ والإنسان في آخر أيام حياته يفكر في الماضي وكأن تلك السنوات مرت كحلم، حتى أن الانسان حينما يسأل يوم القيامة عن حياته في الدنيا يقول: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ}، فالايام والساعات تتلاحق، ونحن أمام تجربة عظيمة، وهي كيف نتحول الى رساليين بصفاتنا، وافكارنا، وخلاصة الآيات الكريمة في كيفية أن يحوّل المؤمن الحياة الى مدرسة بأن ينظر اليها بمنظار ديني؛ فيجعل كل شيء من حوله ينهض به، ويربيه، ويخدمه ويسير به نحو التكامل.