أسوة حسنة

منهجية الإمام الصادق في تخصص أصحابه .. مواجهة الزنادقة نموذجاً

  • مقدمة معرفية

ما أحوجنا في هذا العصر إلى ذلك الفكر الصافي، والمنهج المعرفي الذي أبدعه أئمة أهل البيت، عليهم السلام، في عصرهم الذي استنار بنورهم، لأننا نواجه هذه المعركة المصيرية مع دعاة الحضارة الرقمية، وأصحابها الذين جاؤوا إلينا من كل حَدَبٍ وصوب وأمطرونا بأفكارهم وأرادوا أن يفرضوا علينا سخافاتهم وكفرهم وإلحادهم بالقوة أو المروَّة، بالخبث والدَّهاء، والمكر والخديعة، وبما يسمونه بالحرب الناعمة.

  • منهج الإمام الصادق ، عليه السلام، التربوي

والباحث في التاريخ الإسلامي عامة بل والولائي خاصَّة يتعجب من ذلك الأسلوب والمنهج المبتكر الذي اتَّبعه الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، في تربية كوادره وتلاميذه بحيث جعلهم اختصاصات ليستطيع مواجه كل تلك الحرب الفكرية والثقافية التي عصفت بالأمة الإسلامية في عهده الذي عاشه مخضرماً ما بين السقوط الأموي والصعود العباسي فكانت فترة قلاقل وبلابل وفي مثل تلك الظروف يكثر المهرِّجون والمشعبذون وأصحاب الأهواء.

الإمام الصادق الذي ورث تلك المدرسة العلمية التي أسسها وبدأها والده الإمام الباقر حين بقر العلوم وراح ينشرها في الأمة فجاء من بعده ولده البار العظيم الإمام الصادق، عليه السلام، ليحولها إلى جامعة علمية كبيرة حوت في وقت واحد أربعة آلاف من التلاميذ والطلاب كما يقول المؤرخون وقد وصل عدد طلابها أكثر من عشرين ألف طالب وتلميذ فكان لا بدَّ من وجود ثلَّة طيِّبة من المبرِّزين من تلاميذ وطلاب الإمامين الصَّادقَين، عليهما السلام، وهذا ما جعل الإمام الصادق ينفرد بمسألة التخصص العلمي لمواجهة كل أولئك الذين يدَّعون العلم أو الفقه، أو حتى الأدب والتفسير، والكلام والفلسفة، وغيرها من العلوم المختلفة التي راجت وانتشرت في تلك الفترة.

⭐ الإمام الصادق الذي ورث تلك المدرسة العلمية التي أسسها وبدأها والده الإمام الباقر حين بقر العلوم وراح ينشرها في الأمة فجاء من بعده ولده البار العظيم الإمام الصادق، عليه السلام، ليحولها إلى جامعة علمية كبيرة

فكان منهج الإمام المتَّبع في جامعته العملاقة هو التَّخصص العلمي حيث أبدع فيه الكثير من الطلاب الذين جعلهم الإمام بمكانته بحيث إذا غُلبوا يكون الإمام قد غُلب، بل كان يقول لهم: “حَاجُّوا اَلنَّاسَ بِكَلاَمِي، فَإِنْ حَاجُّوكُمْ كُنْتُ أَنَا اَلْمَحْجُوجَ لاَ أَنْتُمْ”، ويروي التاريخ أنه جاء رجل شامي يدَّعي العلم وأراد حوار الإمام الصادق فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (يَا حُمْرَانُ دُونَكَ اَلرَّجُلَ)! فَقَالَ اَلرَّجُلُ: إِنَّمَا أُرِيدُكَ أَنْتَ لاَ حُمْرَانَ، فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إِنْ غَلَبْتَ حُمْرَانَ فَقَدْ غَلَبْتَنِي)، والعجيب منه، عليه السلام، في تربيته لهم رغم ما أعطاهم من العلم والثقة كان ينقدهم ويسدِّدهم ويثني على الفكرة الصحيحة، ويصحح الأخرى الخاطئة بعد كل جلسة علمية فيزدادوا علماً وفهماً ومعرفة من الإمام ، عليه السلام،.

وروي أن أبا هذيل العلاف قال لهشام بن الحكم: “أناظرك على أنك إن غلبتني رجعتُ إلى مذهبك، وإن غلبتك رجعتَ إلى مذهبي”، فقال هشام: ما أنصفتني “بل أناظرك على أني إن غلبتك رجعتَ إلى مذهبي، وإن غلبتني رجعتُ إلى إمامي”، بهذه الثقة، وبهذه النفسية والأريحية كان تلاميذ وطلاب الإمام الصادق، عليه السلام، الذين كان فيهم مثل حمران بن أعين، ومؤمن الطاق، وهشام بن الحكم، وهشام بن سالم، وابن أبي عمير، وزرارة بن أعين الذي حفظ أكثر من ثلاثين ألاف حديث عن الإمامين الصادقَين ولولاه لذهب الكثير من الأحاديث المروية عنهما كما قيل.

  • حوار الإمام، عليه السلام، مع الزنادقة

وكثيرة هي حواريات الإمام الصادق، عليه السلام، مع العلماء والفقهاء وأرباب المقالات من مختلف الأنواع والصنوف والعلوم، وهنا سنأخذ نموذجاً مبسطاً له، عليه السلام، مع الزنادقة والدَّهريين، وهؤلاء أكثر المشككين ممَّن يدَّعون العلم والفهم ويرون بأنفسهم أنهم أصحاب العلم والفلسفة وغيرهم كالبهائم السائمة، وذلك لكثرة أمثالهم في هذا العصر الأغبر حيث ابتلينا بأناس من هذه القماشة البالية، وببعض من هذه الطبقة الفاشلة في كل شيء، ويريدون أن يغطوا على جهلهم بالمغالطة والتشكيك وكثرة الكلام بلا طائل منه.

فقد روت كتب الحديث عن مجلس في غاية الروعة والجمال للإمام الصادق، عليه السلام، في أيام الحج مع ثلة من أولئك الزنادقة وعلى رأسهم ابن المقفع، وابن أبي العوجاء حيث نقتطف من ذلك المجلس المهيب بعضه، ونأخذ تلك الشهادة منهما على عظمة الإمام الصادق ، عليه السلام، ومنهجه وطريقته بالحوار الهادئ معهم.

قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَاِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ، وَعَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلْمُقَفَّعِ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ فَقَالَ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: تَرَوْنَ هَذَا اَلْخَلْقَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَوْضِعِ اَلطَّوَافِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ أُوجِبُ لَهُ اِسْمَ اَلْإِنْسَانِيَّةِ إِلاَّ ذَلِكَ اَلشَّيْخُ اَلْجَالِسُ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فَأَمَّا اَلْبَاقُونَ فَرَعَاعٌ وَبَهَائِمُ.

فَقَالَ لَهُ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ: وَكَيْفَ أَوْجَبْتَ هَذَا اَلاِسْمَ لِهَذَا اَلشَّيْخِ دُونَ هَؤُلاَءِ؟

قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُ عِنْدَهُ مَا لَمْ أَرَهُ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ لَهُ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ: لاَ بُدَّ مِنِ اِخْتِبَارِ مَا قُلْتَ فِيهِ مِنْهُ.

قَالَ فَقَالَ لَهُ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: لاَ تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكَ مَا فِي يَدِكَ، فَقَالَ: لَيْسَ ذَا رَأْيَكَ وَلَكِنْ تَخَافُ أَنْ يَضْعُفَ رَأْيُكَ عِنْدِي فِي إِحْلاَلِكَ إِيَّاهُ اَلْمَحَلَّ اَلَّذِي وَصَفْتَ.

فَقَالَ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: أَمَّا إِذَا تَوَهَّمْتَ عَلَيَّ هَذَا فَقُمْ إِلَيْهِ وَتَحَفَّظْ مَا اِسْتَطَعْتَ مِنَ اَلزَّلَلِ وَلاَ تَثْنِي عِنَانَكَ إِلَى اِسْتِرْسَالٍ فَيُسَلِّمَكَ إِلَى عِقَالٍ وَسِمْهُ مَا لَكَ أَوْ عَلَيْكَ.

قَالَ: فَقَامَ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ وَبَقِيتُ أَنَا وَاِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ جَالِسَيْنِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْنَا اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ قَالَ: وَيْلَكَ يَا اِبْنَ اَلْمُقَفَّعِ مَا هَذَا بِبَشَرٍ وَإِنْ كَانَ فِي اَلدُّنْيَا رُوحَانِيٌّ يَتَجَسَّدُ إِذَا شَاءَ ظَاهِراً، وَيَتَرَوَّحُ إِذَا شَاءَ بَاطِناً فَهُوَ هَذَا).

فسأله ابن المقفع عن علة قوله فيشرحه له كيف أن الإمام الصادق، عليه السلام، قال له ابتداء ودون سؤال لأنه عرفه وعرف لأي شيء جاء فقال له: (إِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ وَهُوَ عَلَى مَا يَقُولُونَ يَعْنِي أَهْلَ اَلطَّوَافِ فَقَدْ سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ وَإِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ عَلَى مَا تَقُولُونَ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ فَقَدِ اِسْتَوَيْتُمْ وَهُمْ).

فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اَللَّهُ وَأَيَّ شَيْءٍ نَقُولُ وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُونَ مَا قَوْلِي وَقَوْلُهُمْ إِلاَّ وَاحِدٌ؟

فَقَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكَ وَقَوْلُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ لَهُمْ مَعَاداً وَثَوَاباً وَعِقَاباً وَيَدِينُونَ بِأَنَّ فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهاً وَأَنَّهَا عُمْرَانٌ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اَلسَّمَاءَ خَرَابٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ؟

قَالَ: فَاغْتَنَمْتُهَا مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ: مَا مَنَعَهُ إِنْ كَانَ اَلْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ أَنْ يَظْهَرَ لِخَلْقِهِ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ حَتَّى لاَ يَخْتَلِفَ مِنْهُمُ اِثْنَانِ وَلِمَ اِحْتَجَبَ عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ اَلرُّسُلَ وَلَوْ بَاشَرَهُمْ بِنَفْسِهِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اَلْإِيمَانِ بِهِ.

⭐ كان الإمام الصادق يحاور الزنادقة والدَّهريين وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب العلمي الهادئ والرَّصين بحيث يأخذ بيده خطوة فخطوة إلى أن يأخذ الحجة عليه

 فَقَالَ لِي: وَيْلَكَ وَكَيْفَ اِحْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ نُشُوءَكَ وَلَمْ تَكُنْ، وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ، وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ وَضَعْفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ، وَسُقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سُقْمِكَ، وَرِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ وَغَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ، وَحُزْنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ وَفَرَحَكَ بَعْدَ حُزْنِكَ، وَحُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ وَبُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ، وَعَزْمَكَ بَعْدَ أَنَاتِكَ وَأَنَاتَكَ بَعْدَ عَزْمِكَ، وَشَهْوَتَكَ بَعْدَ كَرَاهَتِكَ وَكَرَاهَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ، وَرَغْبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ وَرَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغْبَتِكَ، وَرَجَاءَكَ بَعْدَ يَأْسِكَ وَيَأْسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ، وَخَاطِرَكَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وَهْمِكَ، وَعُزُوبَ مَا أَنْتَ مُعْتَقِدُهُ عَنْ ذِهْنِكَ.. وَمَا زَالَ يُعَدِّدُ عَلَيَّ قُدْرَتَهُ اَلَّتِي هِيَ فِي نَفْسِي اَلَّتِي لاَ أَدْفَعُهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَنْهُ.

هكذا انقطع الرجل وحجة الإمام وبرهانه حتى كاد أن يرى الذي لا يُري وهو بالحلِّ الأعلى من شدَّة الوصف وقوة البرهان، ولكن العجيب من هذا الرجل عاد في اليوم الآخر يريد أن يستكمل حواره لعله يحظى بلحظة أو لفظة يستغلها من الإمام ولكن هيهات له ذلك فقطعه الإمام ببرهان أقوى وحجة أنفذ من سابقتها حتى تركه حائراً في نفسه، ولكنه أصرَّ على عناده وعتوِّه وضلاله فقال له، عليه السلام،: “إِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُ نَجَوْنَا وَنَجَوْتَ، وَإِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وَهُوَ كَمَا نَقُولُ نَجَوْنَا وَهَلَكْتَ”.

هكذا كان الإمام الصادق يحاور الزنادقة والدَّهريين وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب العلمي الهادئ والرَّصين بحيث يأخذ بيده خطوة فخطوة إلى أن يأخذ الحجة عليه ويقطعه ويتركه حائراً بأمره فإما أن يؤمن، أو يبقى على ما هو عليه، وهكذا علَّم وربَّى طلابه وتلاميذه بهذا المنهج العلمي المبتكر فراحوا يحاورون الزنادقة والدَّهريين بنفس الطريقة والأسلوب كما نقرأ من سيرتهم المباركة العطرة.

فالحق يقال: إن الإمام الصادق، عليه السلام، وتلاميذه وطلابه هم روَّاد المنهج العلمي السِّلمي في الحوار، فهو الذي علم الناس والأجيال هذه الطرق العلمية الهادئة بالحوار الذي نسميه في هذا العصر بالحوار الحضاري الذي يكون هدفه إقامة الحجة بأسلوب سليم ومنهج قويم، وهذا كله من بركات مدرسة ومنهج الإمام الصادق ، عليه السلام،.  السلام عليك سيدي ومولاي يا درَّة الوسط في عقد الإمامة، وعظم الله أجركم يا موالين بإمامنا العظيم.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا