دقائق وساعات وأيام تركض وراء بعضها بسرعة غريبة؛ تلك هي الأوقات الرمضانية التي عاشها الصائمون، وها هي تشارف على النهاية.
أيام رمضانية أبهجت قلوب المؤمنين الصائمين في شهر رمضان، وأنعشتهم في شهر الله، روحياً ونفسياً، و أدخلت الهدوء والاطمئنان إلى نفوسهم، فعاشوا سعداء رُحماء متعاونين فيما بينهم.
هذا هو الاختلاف الواضح لشهر رمضان عن سائر الشهور، حيث الخير والعطاء يعمّ الناس، وينتشر في كل مكان، وعلى الرغم من قلّة الحركة في ساعات الصيام نهارا، وغلق المطاعم ومنع الإفطار العلني، إلا أن الناس والشباب منهم على وجه الخصوص، وجدوا البدائل اللازمة والصحيحة لعدم الإفطار في نهار شهر رمضان، فعلى سبيل المثال جارنا شاب في قمة الحيوية والنشاط، تربّى في بيئة ملتزمة، فمنذ أن كان طفلا تعوَّد على الصلاة والصيام، وبقي ملتزما حتى بعد أن تجاوز العشرين من عمره، عمله شاق ومتعب، فهو بنّاء “أسطى”، وعمله يتطلب جهودا عضلية مضنية، فإذا عمل أثناء النهار كما هي العادة قبل حلول شهر رمضان، لا يمكنه الصمود أمام العطش في ساعات النهار الطويلة، فغيَّر ساعات عمله وصار يبدأ شغله في البناء بعد صلاة الفجر مباشرة ثم يُنهي عمله مع منتصف النهار وبداية صلاة الظهر.
⭐ على الرغم من قلّة الحركة في ساعات الصيام نهارا، وغلق المطاعم ومنع الإفطار العلني، إلا أن الناس والشباب منهم على وجه الخصوص، وجدوا البدائل اللازمة والصحيحة لعدم الإفطار في نهار شهر رمضان
هكذا اعتاد على مواصلة عمله في شهر رمضان، وبقي مستمرا في صيامه، فهو يعرف إن العمل الشاق والعطش لا يبرران عدم الصيام، أما المرض والسفر فهما عذران شرعييان للإفطار وقضاء الصوم، لذلك جرَّب العمل فجراً حتى منتصف النهار ونجح في الاحتفاظ بأداء الصيام على أكمل وجه.
إنه نوع من الابتكار أو الحلول، لاسيما لمن يمتد عمله ساعات طويلة في النهار، تحت ظروف الحر والعطش والجوع، والمهم في هذا الجانب أن لا يفقد لذّة الصوم، والانتعاش الذي يعيشه من الصوم وهو يشعر بالاطمئنان والاستقرار النفسي والروحي، ولم يفكر بعدم الصوم بسبب العمل مطلقا، بل أثَّر في أصدقائه العاملين معه، وتأثروا به وغيّروا ساعات عملهم وهم يتخذون قراراً واحداً مع انفسهم بأن “المهم أن لا نفقد عطاء الله في شهره الكريم، شهر الخيرات والبركات الكثيرة”.
الباعة المتجولون أيضا لهم أهدافهم في هذا الشهر الكريم، فهؤلاء الباعة غالبا ما يجوبون الأحياء السكنية ويدورون في أزقتها لكي يبيعوا بضاعتهم، وقد حرص الكثير منهم كل الحرص على مواصلة الصيام في شهر الله، لم يوقفوا عملهم بحجة الصوم، لكي لا يفقدوا نفحات الرحمة التي تهبط على نفوسهم وقلوبهم وأرواحهم في هذه الأيام الكريمة المباركة، صمدوا جميعا في مواصلة صيامهم.
إنهم يودّعون هذا الشهر الكريم، شهر الخير والعطاء في حالة من الشوق والحسرة، وألسنتهم تعلن هذا الأسف، ونفوسهم تعيشه، أحدهم يقول إن خيرات الإفطار عندما يُرفَع اذان المغرب تتضاعف بشكل عجيب، حتى أن سفرة الطعام تمتد لتجمع أفراد الأسرة جميعهم، يجمعهم الإفطار وهم يترقبون لحظات رفع الأذن ليبلّوا عروقهم ويتناولوا حبات من التمر اللذيذ وشيئا من اللبن، ثم ينهضون معاً لأداء صلاة المغرب، في أداء يومي ينعش القلوب والنفوس معا، أجواء يعيشونها في شهر رمضان، ويشعرون فيها بالألفة والتراحم والتقارب والابتهاج بالمشاعر الصادقة تجاه ما يعيشونه من راحة واستقرار وشعور بالسلام.
⭐ الصيام عملية حساب للنفس ومراجعة لها، وهي محاولة صادقة للخروج من شهر رمضان بنفس جديدة، وقلب جديد، وروح جديدة في جسد مختلف، أعطاه شهر رمضان تجربة عظيمة، صنعت منه إنسانا مختلفا عما كان عليه قبل شهر الصيام
كأنهم يودّعون شيئا عزيزا عليهم، بل أكثر من ذلك بكثير، حيث يحاول الصائم، أن يحصي الأيام التي صام فيها، وهو يسعى لتنظيف قلبه ونفسه مما لا يليق بالإنسان، من حقد وكراهية وحسد وغير ذلك من العادات البشرية التي لا تليق بالصائم المسلم، ولا بأي إنسان، يراجع نفسه عمّا فعله من أشياء وحوادث، وما قاله من كلمات، وطريقة تعامله مع الآخرين، هي عملية حساب للنفس ومراجعة لها، وهي محاولة صادقة للخروج من شهر رمضان بنفس جديدة، وقلب جديد، وروح جديدة في جسد مختلف، أعطاه شهر رمضان تجربة عظيمة، صنعت منه إنسانا مختلفا عما كان عليه قبل شهر الصيام.
إنهم يردّدون معًا في مثل هذه الأيام التي يشارف فيها شهر الله على الانقضاء، يردّدون جميعا بصوت واحد ونبرة واضحة: اللهمّ أعده علينا ونحن سالمين يا رب العالمين، أللهمّ ارزقنا خيرات شهر رمضان مرة أخرى، و امنحنا نفحات الرحمة فيه، و ارزقنا بالعطاء الذي يستحقه الصائم، اللهم يا أرحم الراحمين، أعد شهرك علينا، شهر رمضان الكريم بالسرعة التي غادَرَنا فيها، واغمرْنا ببركاته وخيراته وعطائه يا رب العالمين.