- مقدمة وجدانية
الحديث عن الحياة لا يمكن أن يمرَّ بدون الحديث والبحث عن أصل الحياة بالنسبة لكل إنسان مهما كان، لأن الجميع وُلدوا من والدين، ثم وَلَدوا أولاداً فهذه القاعدة لم يخرج منها إلا آدم وحواء في الوالدين، والسيد المسيح الذي استغنى عن الوالد ولكن لا بدَّ من الوالدة ولذا كان من الطبيعي أن نبحث عن السعادة في أصل الحياة وماء الوجود لنا.
فالإنسان مهما كبر وتعملق وغني وفقر، وطغى واستكبر فإنه انعقدت نطفته في رحم تلك المرأة التي حملته كرهاً ووضعته كرهاً، وهذا يجعله أمامها طفلاً صغيراً مهما كبر، فالجميع بالنسبة لأمهاتهم أطفال صغار تحبه وتخاف عليه، وتعطف وتحنُّ إليه، وليس المشكلة بالأمهات قطعاً بل المشكلة بالأبناء كما نعرف جميعنا، فما هو واجبنا تجاه والدينا وبالخصوص أمهاتنا وما دورهما في السعادة والشقاء لأبنائهما؟
- برُّ الوالدين
هنا يطول الحديث ويتشعَّب في الأيات القرآنية الكريمة والأحاديث الولائية الشريفة الكثير من الوصايا بالوالدين، والأمر ببرهما مهما كانا مسلمين تقيين أو غير ذلك، لأن التشريع الإسلامي ينظر إلى أصل الكون وأساس التكوين بعين البصيرة والرحمة، ويبني كل أحكامه على تلك القاعدة الرَّصينة من الرحمة التي خلقنا الله لها وبها حيث يقول: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود: 119).
⭐ الخلق خُلقوا جميعاً بالحب والرَّحمة وأمرهم بالمودة فيما بينهم، وهذا الذي بينته الآيات الكريمة من بداية الحياة الزوجية التي بناها خالقها على تلك القاعدة أيضاً قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
فالخلق خُلقوا جميعاً بالحب والرَّحمة وأمرهم بالمودة فيما بينهم، وهذا الذي بينته الآيات الكريمة من بداية الحياة الزوجية التي بناها خالقها على تلك القاعدة أيضاً قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. (الروم: 21).
فالجعل الإلهي للمودة والرحمة والغاية والهدف هو السَّكن المشترك بين الروحين والأمان والاطمئنان بين القلبين والجسدين، فهذه هي فلسفة الحياة الزوجية، التي تحاول الحضارة الرقمية في هذا العصر أن تُنكرها وتدفنها في المجتمعات البشرية، وتعيد الإنسان إلى عصر البهيمية بما تحاول الدوائر الاستكبارية العالمية أن تشيعه من مثلية وشذوذ جنسي يمسخ البشر عن جلدتهم ويخرجونهم من فطرتهم لأهداف سياسية وأهواء نفسية مريضة.
- آفة الحضارة الرقمية
والحضارة المعاصرة وكأنها وَضعت لها هدفاً لها بتدمير كل القيم الإنسانية، وإشاعة الفساد والفاحشة بأشنع صورها، والمستهدف الأساسي في كل هذه المخططات هي الأسرة، لأنها هي اللبنة الأولى للمجتمع فإن كانت فاضلة يكون المجتمع مثلها وإن كانت تافهة ومتهلهلة كان المجتمع متفسخاً ويسوده قيم الرذيلة، وتُقتل فيه قيم الفضيلة، كما نرى ونسمع بذلك في كل المجتمعات الغربية، ويحاولون بكل الأجندات أن يصدِّروه إلينا بكل طريقة ووسلية من أجل ضرب هذه المؤسسة الرائعة التي ننعم بها ونتقلَّب في أحضانها.
وكلنا رأينا وسمعنا في كأس العالم في قطر حينما فازت المغرب ونزلت الأمهات واحتفل اللاعبون ورقصوا مع أمهاتهم بالفوز ماذا قال ذلك المذيع الألماني وعلى الهواء مباشرة: “هذه المشاهد الحميمية مع العائلة لم نعد نراها في مجتمعاتنا الغربية، التي تسودها الأنانية والمثـلية الجنـسية، واندثار مفهوم الأسرة ودفأها، وعقوق الوالدين ورميهما في الملاجئ..
العائلة وتحفيزها المعنوي وراء إنتصارات الفريق المغربي.. وأما نحن فجئنا لنساند المثـليين ونضع أكفنا على أفواهنا بشكل مخجل، فخرجنا خاليي الوفاض ومن الباب الضيِّق، فهم تعلموا الكرة منا، وأصبحوا يتقنونها وتجاوزونا، ونحن يجب أن نتعلم الأخلاق منهم، علَّ وعسى أن نرى يوماً أمهاتنا تعانقننا يوماً ما في المدرجات”.
هذه الكلمات الوجدانية التي خرجت من هذا الإنسان، هي عين الحقيقة والصواب فكم هم يشتاقون لأمهاتهم، وأمهاتهم تشتاق إليهم ولكن الماكنة العملاقة للحضارة داست بآلتها على كل تلك القيم والفضائل الأسرية والإنسانية فيهم، وأما نحن فمازلنا نعيش بظلال هذه النعمة الإلهية الكبرى حيث أننا نشعر بخيمة الأب الكبيرة، ودفئ حضن الأم الحنونة.
- بر الوالدين مفتاح السعادة
ولذا نجد القرآن الحكيم وهو دستور الحياة الإسلامية والإنسانية الأرقى على كل المستويات التشريعية والقيمة والأخلاقية يُبيِّن لنا هذه الحقيقة في آية عن السيد المسيح عيسى بن مريم الذي لم يكن له أب ولكن كانت أمه السيدة مريم العذارء فكان يؤكد على أنه بارٌّ بوالدته الحنونة الطاهرة حيث يقول: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}.(مريم:32).
ولطيف ما قاله قتادة: “ذُكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يُحيي الموتى، ويُبرئ الأكمه والأبرص، في آيات سلَّطه الله عليهن، وأذن له فيهن، فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، وللثدي الذي أُرضعت به، فقال نبي الله عيسى (عليه السلام) يجيبها: “طوبى لمَنْ تلا كلام الله، فاتبع ما فيه ولم يكن جبَّاراً شقيَّاً”.
فالإنسان الذي يعيش باراً بوالديه – وخاصَّة والدته- فإنه يحمل القيم الراقية في مجتمعه وهذا لن يشقى في حياته أبداً، لأنه تحوطه رعاية ودعاء والديه من كل جوانبه وهذا سيكون مفتاحاً لسعادته ومغلاقاً لشقائه في هذه الدنيا.
وأما العكس فالذي يكون عاصياً فظاً غليظاً فإنه سيكون عاصياً وعاقاً لوالديه فإنه سيكون عين الشقاء والجريمة ولن تنتهي حياته إلا بالضنك والشقاء حتى ولو كان متربعاً في البيت الأسود كما رأينا ذاك الشقي القاتل المجرم.
⭐ بر الوالدين هي سعادة في الدارين، سواء كانا في الحياة الدنيا أو في الحياة الأخرى ولقد فتح الله لنا هذا الباب وأعطانا المفتاح لنفتح الباب ونسعد في حياتنا في أهلنا، فكم الحياة جميلة ورائعة في ظل الوالدين
وأنت – أيها الشاب المؤمن – يا مَنْ أنعم الله عليك بهذه النعمة الرائعة من بيت ووالدين كريمين تنام بملئ عيونك وأنت ناعم البال ومطمئن، حتى أنني قرأت كلمة جميلة لأحد الأدباء حينما سألوه عن الأمن والأمان فقال: “حذاء والدي أمام عتبة الباب”، وإذا أردت – أيها الحبيب- معرفة هذه النعمة فما عليك إلا أن تسأل ذاك اليتيم البائس، أو الذي فقد والده ما شعوره وكيف هي حياته؟
- بر الوالدين كالتوحيد
وهذا ما نراه في آيات القرآن الحكيم حيث يقرن العبادة والتوحيد ببر الوالدين، وذلك في قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النساء: 36) ، وحتى قيل أن العبادة والتوحيد لا تُقبلان إلا مع البر للوالدين، ولذا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (برّ الوالدين أفضل من الصلاة، والصوم، والحجّ والعمرة، والجهاد في سبيل الله)، وقال (صلى الله عليه وآله): (سيّد الأبرار يوم القيامة رجل برّ والديه بعد موتهما).
وقد تسأل أيها العزيز: كيف يبرُّ الإنسان والديه بعد موتهما؟
هذا ما يجيبك عليه الإمام الخامس من أئمة المسلمين شبيه رسوله الله، صلى الله عليه وآله، الإمام محمد الباقر حيث يقول: “إنّ العبد ليكون باراً لوالديه في حياتهما، ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عزّ وجل عاقًّا، وإنّه ليكون عاقًّا لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما، واستغفر لهما، فيكتبه الله عزّ وجل بارًّا”، هكذا يكون الإنسان المؤمن باراً بوالديه في حياتهما فلا يقل لهما: أُفٍّ، بل يتحمَّل كل ما يستطيع في سبيل سعادتهما، لأنهما مفتاح السعادة له في حياته.
ويروى أنه جاء رجل إلى النبيّ، صلى الله عليه وآله، وقال: “يا رسول الله إنّي حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة، لو ألقيتُ فيها بضعاً من لحمٍ لنضجت، فهل أدّيتُ حقّ شكرها، فقال: “لعله أن يكون بطلقة واحدة”، أي أن عملك هذا قد يعادل طلقة واحة من طلقات الولادة حينما كانت تريد أن تضعك.
فإذا أردتم السعادة، وقد تتلخَّص عند بعضكم بالمال والرزق والعمر الطويل والراحة فهل تعلم أن مفتاح ذلك وأساسه هو في برِّك بوالديك وهذا ما ضمنه رسولنا الكريم، صلى الله عليه وآله بقوله: “مَنْ يضمنُ لي برّ الوالدين، وصلة الرَّحم، أضمن له كثرة المال، وزيادة العمر، والمحبّة في العشيرة”، وهل السعادة غير ذلك أيها الحبيب؟
- برك بوالديك دَين لك
واعلم -أيها العزيز- أن برك بوالديك هو لك دَين في عنق أولادك، وسؤدونه لك في كبرك فكما تدين تُدان، وكما يكون تعاملك معهما سيكون تعامل أولادك معك في كبرك فاختر لنفسك الطريقة والسلوب، والمعاملة والقصص كثيرة في كل مجتمعاتنا، وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف: “بَرُّوا آبَاءَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ”. فبر الوالدين هي سعادة في الدارين، سواء كانا في الحياة الدنيا أو في الحياة الأخرى ولقد فتح الله لنا هذا الباب وأعطانا المفتاح لنفتح الباب ونسعد في حياتنا في أهلنا، فكم الحياة جميلة ورائعة في ظل الوالدين عندما نكون صغاراً، ومع الأولاد والأحفاد عندما نكون كباراً فلا نفرِّطوا بهذا المفتاح من البر أيها الشباب المؤمن، ولا تغرنَّكم كل دعايات وبهرجات الحضارة الرقمية وحقكم يعيشون بشقاء ما بعده شقاء، أجارنا الله وإياكم من الشقاء والبلاء.