ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (24) بالفطنة والذكاء تصل الى اليقين بالله*

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: واليقين منها على اربع شعب على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر في الفطنة، تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة، عرف العبرة ومن عرف العبرة، فكأنما كان في الأولين”.

الاسلام قائم على اربع دعائم:

الدعامة الاولى: الصبر.

الدعامة الثانية: اليقين.

الدعامة الثالثة: العدل.

الدعامة الرابعة: الجهاد.

والسؤال هنا: ما هي ينابيع اليقين في نفس الانسان؟

 كيف يحصل الانسان على يقين من ربه ودينه ومعتقده؟

أمير المؤمنين، عليه السلام، في الكلمات التي  توجنا المقال بها، يبين مصدر اليقين يكون من داخل الانسان، لكي تزداد يقينا لا تحتاج الى من يرشدك الى ذلك، فحينما ترجع الى داخلك تجد هنالك ينابيع لليقين واولها تبصرة الفطنة.

لكي نعرف مبدئيا ما قيمة اليقين في الاسلام،  فالاسلام يريد من المؤمن في الدرجة الاولى يقينه، وان  العبادات القائمة على الشك والترديد مثل بنايات تقوم على الرمال، بينما عمل صغير قائم على يقين بالله ـ عز وجل ـ مثل نبتة وإن كانت صغيرة، إلا أنها غائصة في أعماق الارض.

لكي نعرف ذلك نرجع الى بعض الروايات، قال أبو الحسن، عليه السلام: ” الايمان فوق الاسلام بدرجة، والتقوى فوق الايمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شئ أقل من اليقين” حينما يكون الاسلام لقلقة لسان، او الانخراط مع المسلمين فهذا هو الاسلام: { قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، لكن حينما يدخل الاسلام في قلب الانسان يتحول الى إيمان، وأكثرمن ذلك نرى ان اليقين ارفع درجة من التقوى.

في حديث قدسي: ” الموقن يعمل لله كأنه يراه فإن لم يكن يرى الله فان الله يراه، وأن يعلم يقينا أن ما أصابه لم يكن ليخطيه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وهذا كله أغصان التوكل ومدرجة الزهد”.

⭐ مصدر اليقين يكون من داخل الانسان، لكي تزداد يقينا لا تحتاج الى من يرشدك الى ذلك، فحينما ترجع الى داخلك تجد هنالك ينابيع لليقين واولها تبصرة الفطنة

عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله، عليه السلام، يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرا لونه، قد نحف جسمه و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وآله: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقنا، فعجب رسول الله، صلى الله عليه وآله، من قوله وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟

 فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك و أنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة، يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي.

 فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله، لأصحابه: هذا عبد نور الله قلبه بالايمان، ثم قال له: الزم ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله، صلى الله عليه وآله، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي، صلى الله عليه وآله، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.

اليقين يجعل الانسان يرى ما وعد به، آيات القرآن الكريم حينما تتحدث عن الجنة والنار تتحدث بلغة الماضي، لا بصيغة المستقبل، ذلك ان الجنة والنار بالنسبة لله شيء قد حدث، ونحن ننظر الى المسألة وكأن ذلك كذبا، أو انه لا تشملنا، او لعل بيننا وبينه ملايين السنوات، لكن في علم كأن القيامة قد قامت.

حينما يرجع الانسان الى نفسه ويتقين من كلام الله ـ تعالى ـ فهو يسير من دون ان يحسب أي حساب آخر، لكن البعض ـ  للأسف ـ تجدهم غير واثقين بوعود الله ـ عز وجل ـ، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “سلوا الله اليقين وارغبوا في العافية”، وقال: “نوم على يقين خير من صلاة في شك ولا ايمان لمن لا يقين له”.

  • من أين نحصل على اليقين؟

المؤمنون على نوعين:

الاول: يقينه ثابت.

الثاني: يعبد الله على حرف، أي على شك وتردد.

منبع اليقين ليس مكتبة، ولا محاضرة، بل المنبع هو رجوع الانسان الى عقله وضميره، منبع اليقين داخل الانسان نفسه، والله تعالى حينما خلق الانسان اودع فيه كفاءات وطاقات، ولديه القابلية للنمو من الناحية الروحية والنفسية بلا حساب، فهو الذي يولد ولا يعرف طريق فمه من أنفه، فنحتاج الى فترة من الزمن حتى يعلمنا الآباء والأمهات ان نضع اللقمة في فمنا لا في عيننا، واكثر من عام لا نعرف المشي، وفي عمر سبع سنوات نتعلم الحروف الهجائية: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

⭐ منبع اليقين ليس مكتبة، ولا محاضرة، بل المنبع هو رجوع الانسان الى عقله وضميره، منبع اليقين داخل الانسان نفسه

لكن هذا الانسان الذي يولد هكذا من الناحية الجسدية، يصل من الناحية العلمية الى امكانه الى صنع مركبة تذهب الى القمر، واذا اصيبت المركبة في القمر ـ وهي على بعد 300 ألف كيلو متر ـ يصلح الانسان المركبة من الارض عبر أزرار معينة.

منبع اليقين استعمال الذكاء، والفطنة، والرجوع الى العقل، والضمير، ـ فمثلا ـ أبو ذر الغفاري كان من ينتمي الى قبيلة غفار، وهي قبيلة تمتهن السرقة، فكانت تقطع الطريق على زوار الكعبة وتسرق منهم أموالهم.

أبو ذر الغفاري كان من هذه القبيلة لكنه تميز عنهم، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه، وعلى هذا فهناك نوعين من الاشخاص؛ شخص يقرأ علما ويزداد معلومات، كآلة مسجِلة، وهناك شخص يعبئ نفسه يقينا، وحكمة وعقلا. لا نحتاج الى الذين يطالعون كثيرا لكنهم لا يعوا ولا يستوعبوا ما يقرأونه، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “أيها الناس ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها”، اكثرها وعيا، واكثرها ادراكا، وذلك لا يأتي عن طريق حفظ الآيات والخطب، إنما يـأتي عبر التفكر؛ {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، قد لا تكون عالما، لكن تستطيع أن تكون متفكرا، وأن تكون على يقين عبر الرجوع الى الفطرة السليمة والعقل.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي (حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا