- مقدمة عبادية
هذا الكون خُلق لغاية وهدف، وهو أنت أيها الإنسان، فأنت – أيها المخلوق المكرَّم على خالقه- غاية الحياة، ولكن أنت ما هي غايتك، وهدفك فيها؟
جَاءَ فِي اَلْأَحَادِيثِ اَلْقُدْسِيَّة، إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ: “َبْدِي خَلَقْتُ اَلْأَشْيَاءَ لِأَجْلِكَ، وَخَلَقْتُكَ لِأَجْلِي، وَهَبْتُكَ اَلدُّنْيَا بِالْإِحْسَانِ، وَاَلْآخِرَةَ بِالْإِيمَانِ”، فكل الأشياء خُلقت من أجلك ولتكون في خدمتك، ولكن أنتَ مخلوق من أجل الله، فأنت عبد الله وخليفته في أرضه، كيف؟
الجواب في قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. (الذاريات: 56).
فغاية خلقتك أنت أن تعبد الله ـ تعالى ـ، ولا تعبد غيره مهما كان وأينما كان، فأنت خُلقت لتكون عبداً لله فقط، وتكفر بكل معبود غيره وترفض كل الأصنام البشرية والحجرية، في حياتك، وتُخلص لله في طاعتك وعبادتك له طلباً لمرضاته وحده لا شريك له.
- السعادة بالعبادة
سر الحياة التي لم يدركها البشر وخاصة في هذا العصر والحضارة الرقمية الذي جعلهم ينبهرون بأضوائها ولمعانها وبريقها الخاوي، وسنائها الغاوي، فضاعت البوصلة والإتجاه الصحيح لهم، فظن الناس أن السعادة بتحصيل هذه الأشياء اللامعة البرَّاقة ولكن مهما حصلُّوا لا يحققون السَّعادة بل يقعون في الشَّقاء لأنهم يبحثون عن غيرها ويشقون من أجل ذلك ولا يسعدون بما عندهم ولو كان من أرقى ما هو موجود في هذه الدنيا، فتكون الأشياء المادية سبباً للشقاء لا سبباً للسعادة وهذا معروف ونراه في كثير ممَّن هم حولنا من أصحاب الثروات والطائلة فتراهم من أشقى الناس، وأحدهم كان يقول لسماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه): “أنني لا أهنأ بالطعام، ولا بالمنام، ولا بالعيش، بل آكل السندويشة وأنا أراقب حركة البورصة والأسهم، فلا أعرف معنى الراحة في حياتي”، وهل من شقاء كهذا؟
⭐ السعادة سر الحياة التي لم يدركها البشر وخاصة في هذا العصر والحضارة الرقمية الذي جعلهم ينبهرون بأضوائها ولمعانها وبريقها الخاوي، وسنائها الغاوي
السعادة جعلها الله في العبادة له، وطاعته وذلك لأنها تُريح الإنسان ولهذا كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، يقول لبلال إذا حلَّ وقت الصلاة: (أرحنا بها يا بلال)، ولا يقول: أرحنا منها، والكثيرين منَّا يرتاحون منها فيؤدونها لإسقاط الواجب فقط، ولو كانوا يصلونها ليرتاحوا بها لأورثتهم السعادة بأعلى نسبة لها، وأرقى معانيها التي يبحثون عنها في هذه الحياة.
- التقوى هي غاية العبادة
والتقوى التي هي غاية العبادة وهدفها الأسمى، لأن الإنسان التقي، والعمل التقي هو الذي يتقبله الله ويسجله ويرفعه إليه، والله سبحانه يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27)، وإنما تفيد الحصر كما يقول العلماء، فحصرت الآية القبول للأعمال من هؤلاء المتقين، الذين لبسوا وتحصنوا بذلك الحصن الحصين، وتزينوا بذلك اللباس الجميل، قال ـ تعالى ـ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}. (الأعراف: 26).
وكن على يقين – أيها الشاب المؤمن- أنه لو السماء انطبقت على الأرض وبينهما إنسان مؤمن اتقى الله لنجَّاه الله، ولجعل له من أمره ومن بينهما مخرجاً، وذلك وعد من الله ـ تعالى ـ بأنه: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. (الزمر: 61).
الله ينجي مَنْ اتقاه، ويُشقي مَنْ عصاه، واعلم أن الأعمال هنا ستتجسَّد أمامك في الدار الآخرة فإذا كانت أعمالك في هذه الدنيا تتناسب مع أهل النار، فكن على يقين أنك معهم وفيهم في الحياة الدنيا، ثم في الآخرة، فالشقاء هو الشقاء والدنيا مقدمة الآخرة، فإذا كنتَ في هذه الحياة شقياً من الشقياء –لا سمح الله-فإنك ستكون ممَّن يصلى النار الكبرى كما الطغاة، والبغاة، والأشقياء الذين قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى}. (الليل: 14-15).
والتقوى أن تجعل بينك وبين ما تخافه وتحذره شيأ يقيك منه، فهو وقاية لك، وتقية منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخافه من غضب ربه، وسخطه، وعِقابه، ما يقيه من ذلك كله وهو بفعل الواجبات وطاعته بها، وترك المحرمات واجتناب معاصيه فيها، فإذا فعلت ذلك فأنت تتقي وتتوقى من عذاب الله في الدنيا بالشقاء، وفي الآخرة بجهنم وهو فيها أعظم البلاء والشقاء لأن الحساب والميزان في يوم القيامة له كفتان لا ثالث لهما، وهما طريقان، ومكانان كما الدنيا الحق والباطل، والخير والشر، والنور والظلمة، فهناك أيضاً الجنة والنار، ولا منطقة ثالثة أبداً بينهما.
وهذا واضح في قوله ـ تعالى ـ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. (هود: 105- 108).
وهذه معادة لا تقبل التقسيم، أو الزيادة والنقصان لأنها هي المقياس والميزان، وليس للآخرة بل للدنيا أيضاً ولذا ورد في لسان الروايات النبوية والولائية تلك المعاني الجميلة فعن مُحَمَّد بن أبي عمَيْر قال: سَأَلْتُ أَبَا اَلْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، عَنْ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (اَلشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَاَلسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)، فَقَالَ: اَلشَّقِيُّ مَنْ عَلِمَ اَللَّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ اَلْأَشْقِيَاءِ وَاَلسَّعِيدُ مَنْ عَلِمَ اَللَّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ اَلسُّعَدَاءِ.
قُلْتُ لَهُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (اِعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)؟
فَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ اَلْجِنَّ وَاَلْإِنْسَ لِيَعْبُدُوهُ وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ لِيَعْصُوهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَاَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ} ، فَيَسَّرَ كُلاَّ لِمَا خُلِقَ لَهُ فَالْوَيْلُ لِمَنِ اِسْتَحَبَّ اَلْعَمَى عَلَى اَلْهُدَى). (التوحيد للصدوق: ج۱ ص356).
- مفتاح التقوى للسعادة
والتقوى علم وعمل كلها، لأنه العلم بلا العمل لا قيمة له، والعمل بلا علم كأنه هباء منثوراً فالعلم والمعرفة داعية للعمل، والتقوى تتألف من كلاهما، لتجعل الإنسان في حصنها وتحميه من الشقاء وضنك العيش في حياته الدنيا والآخرة، وبذلك تكون هي المفتاح السحري الثالث للسعادة، والمغلاق للشقاء بالنسبة للإنسان المؤمن، الذي يسعى لتحقيق السعادة والهناء والعيش باطمئنان وسكون وراحة بال.
⭐ السعادة في العبادة، وذلك لنكون على استقامة وتلاؤم مع نظام الكون كله لأن كل ما في الكون عبيد لله، قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
وهذا كله لا نعرفه إلا باطمئنان القلب، وسكون الروح، وراحة النفس البشرية، وهذا لا يتحقق إلا بالعبادة الحقَّة لله ـ تعالى ـ، وذلك لأن الله ـ تعالى ـ جعل الدنيا والحياة مترابطة وبالأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، وجعل الراحة والسكون والاطمئنان بذكر الله سبحانه وـ تعالى ـ وذلك بقوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. (الرعد: 28).
الشرط الأول هو الإيمان، ثم الذِّكر المتواصل، لأن الله ـ تعالى ـ يذكر ذاكريه، ويشكر شاكريه وينعم عليهم بتلك النِّعم الروحية والنفسية بأنه يجعلهم في حياة مستقرة آمنين ولو كانوا في قعر السجون كيوسف الصديق، أو أسد بغداد الإمام موسى بن جعفر، عليه السلام، الذي كان يقول وهو في سجنه الظالم المظلم: “اَللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْتُ أَسْأَلُكَ أَنْ تُفَرِّغَنِي لِعِبَادَتِكَ اَللَّهُمَّ وَ قَدْ فَعَلْتَ فَلَكَ اَلْحَمْدُ”. (بحار الأنوار: ج۸۳ ص364).
وهارون الحاكم العباسي الذي كان يُخاطب الغيوم والسحب فيقول: “أينما أمطرت سيأتيني خراجك”، ولكنه كان لا يستطيع أن ينام خوفاً من الإمام موسى بن جعفر، ويقول: “لا يهنأ لي العيش وموسى بن جعفر على قيد الحياة”، وحفيده المتوكل الناصبي كان يقول بحق حفيد الإمام الكاظم الإمام علي الهادي، عليها السلام: “لقد أعياني ابن الرضا”.
فالسعادة في العبادة، وذلك لنكون على استقامة وتلاؤم مع نظام الكون كله لأن كل ما في الكون عبيد لله، قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}. (مريم: 93).
فأنت عندما تعبد الله تكون بتلاؤم مع قوى الكون، وأما عندما تعصي الله ولا تعبده كما السماوات والأرض، فما من شيء إلا ويُسبِّح بحمده، قال تعال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الإسراء: 44)
فإذا لم تفعل فإنك سقود نفسك إلى الشقاء الأبدي وتسير إليه برجليك، لأنك لا يمكن لك أن تعاند قوى الطبيعة، وتعاكس الإرادة التكوينية في هذه الدنيا.
فمفاتيح السعادة والشقاء بيدك أنت – أيها الحبيب- فإذا أرتَ السعادة فافتحها بالتقوى والعمل الصالح، لتنعم وتسعد في حياتك، وإلا فأمامك الشَّقاء وضنك العيش كما قال ربك سبحانه وـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. (طه: 124) أسأل الله لنا ولكم السعادة وأن يدفع عنا الشقاء بمحمد وتعرته الأتقياء.