- تقديم إنساني
الإنسان مخلوق مكرَّم على خالقه، ولذا يستحيل أن يتركه هكذا طُعمة للتَّعب والنَّصب والشَّقاء في هذه الحياة، ولذا هيَّأ له كل أسباب السَّعادة وفتح له أبوابها على مصراعيها وأمره أن يدخل منها لينال السَّعادة في حياته.
وحقيقة الإنسان أنه خليفة للرب سبحانه وتعالى في هذه الأرض، ومأمور بعمارتها وهذا يتطلب منه جهداً، وجهاداً، وعملاً متواصلاً ليُحقق ويبلور شخصيته وإنسانيته بذلك لأنه المخلوق الوحيد العاقل والمريد والذي عنده أمل طويل بمستقبل جميل، ولذا تراه يُجهد نفسه لتكاملها وتساميها وترقيها، فتراه المخلوق الوحيد الذي لا يمكن أن يتساوى يوماه، ولا أجياله فكل جيل يسمو ويتقدم على الجيل الذي سبقه، وهذا سرُّ الحضارة الإنسانية، والعمل روحها، والعلم محركها، والقيم قانونها، والأخلاق أريجها وعبقها.
- العمل لا يعني الشقاء
وعلى ما تقدم العمل والجد والاجتهاد لا يعني الشَّقاء أبداً بل هو عين التقدم والتطور والنماء، والبركة، وهذا هو فخر الإنسان وعزه وما يبلور شخصيته في المجتمع ويرسِّخ وجوده في هذه الحياة، ولذا كان من سيرة الرسول الأكرم (ص) أنه كان يقول لأصحابه: (أُغدُ إلَى عِزِّكَ)؛ أي إلى السُّوق، أو إلى الجبل ويُعطيه الحَبل، وكان إذا رأى أيدي العمال والفلاحين الخشنة يقول: (إنها يد يحبها الله ورسوله)، فالعمل لا يعني الشقاء ويجب أن نميِّز في هذا المقام بين العمل المنتج، والجهاد في سبيل الكد على الأهل والعيال وبين الشقاء وضنك العيش، فهذا ليس له علاقة بالعمل وتعبه أبداً.
- القرآن الحكيم مفتاح السعادة
وهنا نعطي الأخوة والأحباب لا سيما الشباب منهم المفتاح الأول للسعادة، والطمأنينة في هذه الحياة، ألا وهو القرآن الحكيم، ولربما سائل منهم يسأل: كيف يكون القرآن مفتاحاً للسعادة ونحن نقرأه طيلة حياتنا ورغم ذلك ترانا في شقاء وضنك عيش؟
الجواب: هنا السِّر في المسألة -أيها العزيز- لأنك لو انتبهت إلى مسألة هي في غاية الأهمية لعرفت السِّر وكيف يكون القرآن الحكيم مفتاحاً للسعادة، مغلاقاً للشقاء.
⭐ القرآن الكريم كتاب حياة لأحياء ولصناعة الحياة الحضارية، لا أن يكون كتاباً صامتاً ما بين الدفتين ونقرأه على الأموات وفي الفواتح والمناسبات للتبرك
فمن المعلوم لديكم أن القرآن الحكيم نزل على الرسول الكريم محمد بن عبد الله (ص) في وقت كانت كل قريش والجزيرة العربية ضده وتحاربه فوقف في وجه الجميع رافعاً صوته الحق بنداء الحقيقة: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)، فلم يستجب له إلا وصيه علي بن أبي طالب حبيبه وربيبه، وخديجة بنت خويلد حبيبته وزوجته، ولكنه كان أسعد إنسان في الكون كله، لأنه كان عندما يأوي إلى بيته ويلجأ إلى ربه ويأنس بكتابه وآياته النازلة عليه، فيقوم للصلاة بين يدي الله حتى تورَّمت قدماه، بل كان يربط نفسه إلى عمود المسجد من شدَّة التعب في الصلاة والعبادة.. فناداه الله من فوق عرشه رحمة ورأفة به: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى) (طه:1-3)، فنزول القرآن ليس للشقاء بل للسَّعادة، والرِّيادة، والقيادة، فهل عرفت السِّر في القرآن؟ وهل عرفت كيف يكون مفتاحاً لأبواب السعادة؟
- في القرآن سر السعادة ومفتاحها
فالحقيقة الواضحة وضوح الشمس في رائعة النهار إلا أنها لشدة وضوحها غائبة عن أذهاننا جميعاً تقريباً – إلا ما رحم ربي – لأنه يقول العلماء: (كما أن شدَّة البعد تحجب فإن شدَّة القرب تحجب أيضاً)، ولو سألت السَّمك عن الماء لما استطاعت أن تعرِّفه لك، وهكذا نحن بالنسبة للقرآن الحكيم الذي نعيش طيلة حياتنا ونحن نقرأه ونتلوه ولكن للتبرك فقط، والقرآن نزل للعمل والتطبيق في الحياة والواقع وليحكم الحياة.
فهو كتاب حياة لأحياء ولصناعة الحياة الحضارية، لا أن يكون كتاباً صامتاً ما بين الدفتين ونقرأه على الأموات وفي الفواتح والمناسبات للتبرك، فنحن الذين ما عرفنا عظمة القرآن وسره فهجرناه ولم نعمل به ولم نطبِّق أحكامه، ولم نستوعب سُننه وبصائره الكبرى.
وهذا ما ورد في أقوال الرسول الأعظم (ص) حيث قال: (إِنْ أَرَدْتُمْ عَيْشَ اَلسُّعَدَاءِ، وَمَوْتَ اَلشُّهَدَاءِ، وَاَلنَّجَاةَ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ، وَاَلظِّلَّ يَوْمَ اَلْحَرُورِ، وَاَلْهُدَى يَوْمَ اَلضَّلاَلَةِ؛ فَادْرُسُوا اَلْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلاَمُ اَلرَّحْمَنِ، وَحِرْزٌ مِنَ اَلشَّيْطَانِ، وَرُجْحَانٌ فِي اَلْمِيزَانِ)، ألا نبحث عن عيش السُّعداء في هذه الحياة، فهذا الرسول الأكرم (ص) يُحدد لنا الباب ويعطينا المفتاح (إن أردتم عيش السعداء.. فادرسوا القرآن)، هذا هو الباب ومن هنا المحراب أيها الأحبة.
- السعادة راحة النفس وسكون القلب
والسعادة التي نبحث عنها في الخارج ولا ولن نجدها وقلنا أنها في داخلنا وتكمن في راحة أنفسنا وسكون قلبنا واطمئنانه وهدوأه وراحته، وهذه هي السَّعادة الحقيقية التي نبحث عنها ولا يعرفها إلا مَنْ أدرك سرَّها المكنون في نفسه وقلبه وعرف أن القلب عرش الرب سبحانه والقرآن الذي يقول: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
وأمير المؤمنين أعلم خلق الله بهذا السِّر فإنه يوصفه ويعطينا مفتاحه حين يقول: (تَعَلَّمُوا اَلْقُرْآنَ فَإِنَّهُ رَبِيعُ اَلْقُلُوبِ، وَاِسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ اَلصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ اَلْقِصَصِ، فَإِنَّ اَلْعَالِمَ اَلْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ اَلْحَائِرِ اَلَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ اَلْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَاَلْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَلْوَمُ). (نهج البلاغة: خ110).
فالسِّر في العمل -أيها العزيز- وليس بطول الأمل وكثرة الأحلام الوردية، وهذا ما يؤكده العلماء الأعلام ومراجعنا الكرام كسماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه) حيث يؤكد في تفاسيره، ومحاضراته القرآنية الكثيرة جداً على هذه الحقيقة الناصعة كأن يقول: ” فمَنْ أراد معرفة الحياة والطبيعة، يجدر به أن يقرأ القرآن ويستضيء به.. أما الذين يقرؤون القرآن وراء الأبواب المغلقة، دونما ينظرون إلى ما يحيط بهم، فإنهم عاجزون عن الاستفادة من هذا القرآن.. والذين يخوضون في الطبيعة والحياة لمعرفتها وفهمها من دون كتاب وهدىً ودليل وبصيرة قرآنية، فهم بدورهم لن يعرفوها.. إنما يعرف الحياة مَنْ يقرأها ويمارسها ويعايشها ضمن كتاب الله الذي لا يضل ولا ينسى، كتاب فيه تفصيل كل شيء بما للكلمة من معنىً.
فإذا أراد الإنسان أن يعيش في الحياة بنور، فليستنر بالقرآن، ولينظر ما هو قائل له، فإن فيه الشرح الوافي لطبيعة الإنسان والمجتمع وتطورات الحياة، وفيه الإجابات الوافية عن نواميس الكون والهدف من خلقته، وفيه أيضاً الإجابة عن السر وراء تطورات الأمم والحضارات وعلل دمارها.. كل ذلك يجده الإنسان في القرآن، وما عليه- والحال هذه- إلا أن يطبق الآيات تطبيقاً صحيحاً على الطبيعة.
⭐ لأن القرآن دستور الحياة الأرقى، وقانونها الأكمل، ولذا يضبط الحياة على موازين الحق ويحكم بين الناس بالعدل، وينشر بينهم القسط، فيعيش الناس جميعاً تحت ظله الظليل ويستنيرون بنوره الجميل
ولا يغيب عنا أن القرآن كما الشمس تشرق كل يوم من جديد، لذا نجد إن القرآن لم ينزل على إنسان دون غيره، أو أمة دون سواها، بل أنزله الله للبشرية كافة، وهو يجري فيمَنْ يأتي كما جرى فيمَن مضى.
فلنقرأ القرآن ولنطّبق آياته على أنفسنا وعلى الناس والحوادث والمشاكل والحالات النفسية، حتى نعرف القرآن بشكل أفضل، وحتى نعرف الحياة بصورة أدق.. وقراءة القرآن دونما تطبيق، أو ممارسة الحياة دونما قرآن، ليس إلّا هجراً للقرآن، وليس إلا تضييعاً للحياة”. (في رحاب القرآن: ص30).
- القرآن مفتاح السعادة مغلاق الشقاء
لأن القرآن دستور الحياة الأرقى، وقانونها الأكمل، ولذا يضبط الحياة على موازين الحق ويحكم بين الناس بالعدل، وينشر بينهم القسط، فيعيش الناس جميعاً تحت ظله الظليل ويستنيرون بنوره الجميل، فيعيشون عيش السُّعداء حقاً وصدقاً، لأنه يشفي لهم صدورهم ويشرحها للإسلام، ويطمئن لهم قلوبهم، ويُزيِّنها بالإيمان وهل من سعادة غير هذا يبحث عنه الإنسان في هذه الحياة؟
فعليك بالقرآن الحيكم – أيها العزيز- واتخذه دستور عمل والتزم بكل ما جاء به من أوامر فاعملها ومن نواهي فانتهي عنها وعند ذلك انظر إلى نفسك كيف ستكون كإمامك الرابع زين العابدين وسيد الساجدين الذي كان يقول: (لَوْ مَاتَ مَا بَيْنَ اَلْمَشْرِقِ وَاَلْمَغْرِبِ لَمَا اِسْتَوْحَشْتُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ اَلْقُرْآنُ مَعِي)، لأن في القرآن الحكيم غنى عن كل أحد، ولكن ليس عنه غنى لمَنْ أراد أن يعيش بسعادة وأمن وأمان واطمئنان، مبتعداً عن الشقاء. ذلك هو سر القرآن لراحة وسعادة الإنسان فهل نأنس بالقرآن في هذا الشهر الكريم؟