يقول الإمام الحسن، عليه السلام: “كن في الناس ولا تكن معهم”.
في هذه الكلمة شيّد الإمام الحسن، عليه السلام، قاعدةً اجتماعية، وثقافية في ذات الوقت، الإنسان إما فاقد لاستقلاليته يعيش تبعا للناس، لا رأي له ولا فكر، فهو مع الريح “همج رعاع” يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، فتارة يكون الانسان في هذا المستوى، فهو يعيش مع الناس لكنه فاقد لاستقلاله الثقافي، والعقائدي..، فهو تابع في أفكاره ورؤاه، فأي شيء يقوله الناس هو معهم، وحسب المثل: “حشر مع الناس عيد”، فإذا كان الناس يعملون بما يدخلهم جهنم فهو ايضا معهم! وإذا اصبحوا جيدين يكون معهم.
وتارة أخرى يعيش الانسان مستقلا برؤاه وأفكاره، ولا يتبع الناس، فله تفكيره، وله شخصيته التي تميزه عن الآخرين، ولكنه منعزلا عن الناس، ويعيش بعيدا عنهم، فهو يملك الاستقلال الثقافي ـ مثلا ـ، لكن الحالة الاجتماعية عنده مفقودة، فلا يعرف الناس، ولا يعرفه أحد.
⭐ هناك من يعيش مع الناس، ومحافظ على استقلاله الثقافي، و يعيش في الوسط الاجتماعي لكنه يمتلك رأياً في اي قضية اجتماعية تحدث
وتارة ثالثة لا الصنف الأول، ولا الثاني، لا يمتلك شخصية ثقافية، ويعيش حالة وسطية، فهو فاقد لاستقلاله الثقافي، وتواجده الاجتماعي.
وهناك من يعيش مع الناس، ومحافظ على استقلاله الثقافي، و يعيش في الوسط الاجتماعي لكنه يمتلك رأياً في اي قضية اجتماعية تحدث، ويراقب التحولات الخارجية؛ الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والعقائدية..، ويكون عنده إعادة قراءة للماضي، وللفكر، والسلوك، والسنن التي يعيشها المجتمع، فهو في ذات الوقت يعيش مع الناس، لكنه لايسايرهم في تحولاتهم، وتغيراتهم إلا إذا كانت ايجابية.
الإمام الحسن، عليه السلام، في كلمته التي توجنا المقال بها، يريد إنسانا من هذا النوع، وذلك هو الانسان الرسالي الشيعي، وهذا هو الانسان المثقف فعلا “كن في الناس ولا تكن معهم”، ولان الانسان في تحول دائم ـ من نعومة أظفاره الى أن يموت ـ عليه ان يراقب المجتمع، فلا يتحول مع تحولاته السلبية، بل يحافظ على نفسه، وإذا رأى تحولا إيجابيا يتحول معه، فنظرة المجتمع الى الحياة اليوم، غير تلك النظرة التي كان يحملها الجيل السابق، حتى أن معالم كل بلد تتبدل وتختلف عما كانت عليه قبل ثلاثين سنة، كذلك جوهر الرجال يتبدل، فقد تراه في يوم من الايام؛ ثقة دائمة، وصدق، وتعاون، وشعور بأسرة واحدة، لكن تأتي أيام ترى النفاق، والتناحر وما اشبه، لذلك على الانسان ان يكون له موقف من تحولات المجتمع سواء في الجانب السلبي منها أو الايجابي.
⭐ لابد ان تكون ثقافتنا مبنية على الدليل والبرهان، سواء من الوحي أم من العقل، فصحة الفكرة ليس لان الواقع يفرضها
اعتزال الناس ليس الحل ـ إذا انحرفوا ـ، فلا تقل: هؤلاء فسقة ..، فترك المجتمع على تلك الحالة يُعبّر عن انهزامية الشخصية المنعزلة، فهو لا يملك الحقيقة القوية، والصدر الواسع، ولا يمتلك القدرة التي بإمكانه عبرها تغيير والناس وتوجيههم، فتراه يعتزل بسبب تحولات الناس وتغيراتهم.
إن الانسان المؤمن لا يعتزل الناس بأي حال من الاحوال، فيجب ان يعيش معهم، لكن في ذات الوقت يجب أن يستقلَّ بشخصيته الثقافية، والفكر، والمؤمن الشيعي هو من يلتزم بكلام ائمة أهل البيت، عليهم السلام.
لابد ان تكون ثقافتنا مبنية على الدليل والبرهان، سواء من الوحي أم من العقل، فصحة الفكرة ليس لان الواقع يفرضها، بل لأن الوحي والعقل يدعوان إليها، فإذا كانت هناك دعوة الى فكرة معينة فعلينا عرضها على الوحي والعقل لانهما لا يتعارضان، فاذا قبلها الوحي والعقل فنقبلها، أما اذا تعارضت معهما ففي هذه الحالة يجب رفضها وعدم القبول بها، وحتى لو كان كل المجتمع يتبنى فكرةً خاطئة فالمؤمن لا ينساق معهم، يقول الله ـ تعالى ـ: {لا يَضُرُكُم مَنْ ضَلَّ إذَا اهتَدَيْتُم}، وهذا يعني أن تكون ـ كمؤمن ـ مستقل ثقافيا وفكريا.
- مقتبس من محاضرة لآية الله الشيخ النمر.