في 27 رجب الأصب عام 40 من عام الفيل أو 13 قبل الهجرة
- مقدمة قرآنية
الباحث والمتأمل في هذه المناسبة العظيمة الواقعة في يوم 27 رجب الأصب ألا وهي المبعث النبوي الشريف، يجد أننا لم نعرف حقيقة المبعث الشريف حق المعرفة، لأننا انشغلنا بتلك الأحاديث الكاذبة التي شوَّهت المناسبة العظيمة ليوم المبعث المبارك.
وحقيقة المبعث إذا أردنا أن نعرفه علينا أن نعرف معنى قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال: 24)، فإلى أي شيء كانت دعوة رسول الله، صلى الله عليه وآله، حتى جعل الله فيها الحياة الحقيقية؟
ودعوة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، كانت لإحياء القيم السماوية في دنيا البشرية التي داستها الطغاة بأقدامها، فجاء المبعث النبوي الشريف بالرسالة الخاتمة لتقول للبشرية جمعاء: اليوم بدأت رحلة القيم الإنسانية، والحضارة القيمية، في دنياكم فاعلموها، واعملوا بها لتحيوا حياة طيِّبة ملؤها الخير، والبركة، والفضيلة، وتحققوا في ظلِّها أهدافكم بالسَّعادة والرَّفاه في الدنيا، وتدركوا غايتكم وهي الجنَّة في الآخرة.
- حياة الجاهلية موت
والحقيقة المغفول عنها أيضاً أن العرب في تلك الأيام المظلمة كانوا أمواتاً ولم يكونوا أحياء أبداً، وصحيح أنهم يأكلون ويشربون، ويتحركون ولكن لا يعرفون للحياة قيمة ولا لها طعماً فهم كالأنعام المربوطة على معتلفها، أو السائمة وهمُّها تقمُّمها، ولا تدري متى يأتيها الجزار ليذبحها ويأكل لحمها.
وهم كانوا كذلك إذ أنهم لا يقر لهم قرار خوفاً من الغزو والهجوم على بعضهم البعض فكان “شِعَارِهم اَلْخَوْفِ، وَدِثَارِهم اَلسَّيْفِ”، أو كانوا كما يصفهم أعلم خلق الله بهم ألا وهو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، حين يصف العرب قُبيل البعثة النبوية الشريفة بقوله: “إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى اَلتَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ، وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ،تَشْرَبُونَ اَلْكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ اَلْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، اَلْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَاَلْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ”. (نهج البلاغة: خ 26).
⭐ حياة العرب في جاهليتهم كانت كحياة الحيَّات في صحرائهم، فكانوا أذلاء خائفين، فكانت تلك الحياة القلقة تمنعهم من بناء ليس العمران والمدنية بل ولا حتى الخيم والأخبية
أو كانوا كما وصفت حالهم سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليه السلام، في رائعتها الفدكية حيث تقول عن عظيم المنَّة عليهم ببعثة الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، فيهم: {وَكُنْتُمْ عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّٰارِ فَأَنْقَذَكُمْ}، مُذْقَةَ اَلشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ اَلطَّامِعِ، وَقُبْسَةَ اَلْعَجْلاَنِ، وَمُوَطَّأَ اَلْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ اَلطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ اَلْقِدَّ، أَذِلَّةً خَاشِعِينَ، تَخٰافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ اَللَّهُ بِرَسُولِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ. (بلاغات النساء: ج۱ ص۲۳).
حياة العرب في جاهليتهم كانت كحياة الحيَّات في صحرائهم، فكانوا أذلاء خائفين، فكانت تلك الحياة القلقة تمنعهم من بناء ليس العمران والمدنية بل ولا حتى الخيم والأخبية لأنهم يعيشون حياة البدو الرُّحَّل يتنقولون بين الجبال والواحات، يبحثون عن الماء والمرعى لأنعامهم والأمان والمأوى لأنفسهم.
وحتى حياة الاستقرار النسبي التي كانت في مكة المكرمة فهي ليست من شطارتهم وتعقُّلهم وإبداعهم بل كانت من فضل الله عليهم ومنَّة السماء التي أرسلت لهم إبراهيم الخليل وولده إسماعيل، عليهما السلام، ليسكن هناك ويبني بيته العتيق ويؤذِّن بالناس بالحج إليه، ورغم أنهم أهل الحرم وجوار بيت الله إلا أنهم كانوا: “اَلْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَاَلْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ”، فكان لديهم 360 صنماً حول الكعبة المشرَّفة حيث هي رمز التوحيد أحاطوها برمز الشِّرك الأصنام، من كل جانب إلى أن جاءهم الرسول الأعظم ، صلى الله عليه وآله،وحطَّمها وكسَّرها وأعادهم إلى التوحيد رغماً عنهم.
- حياة قريش بين الوأد والعَفَاد
وأما بخصوص حياة أهل مكة وهم من قريش سواء الباطن، أو الظاهر، فكانت حياتهم كلها تُختصر بحياتين فهم ما بين التجار الأغنياء، والعبيد الفقراء، وكانت حياتهم مختصرة بين موتين إما الوأد للبنات، أو العفاد للعائلة جميعها، وعادة الوأد معروفة ومنبوذة ومستنكرة في كتاب الله تعالى بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}.(سورة التكوير: 9).
وأما العادة العربية والقرشية غير المعروفة والتي رفعها سيدنا هاشم الخير الذي أسس الحضارة لقريش برحلتي الشتاء والصيف، رفع عنهم هذه العادة البغيضة حيث يُقال عن العَفاد: هو “أن يُغْلِقَ بابَهُ على نفسِهِ فلا يَسْألَ أحداً حتى يَمُوتَ جُوعاً، وكانوا يَفْعَلونَ ذلك في الجَدْبِ”، أو يحفرون حفرة لكل واحد منهم يجلس فيها حتى يموت جوعاً والرياح تتكفل بدفنه بالرمال فيما بعد.
وقالوا: إذا أصاب القحط عامة أهل مكة، أغاثهم هاشم بما فعل مدة محدودة من الزمن، وبقي في مـكـة بـعـد ذلك أناس لم تكن لهم حيلة في مقابل الجوع إلا الاعتفاد، والاعتفاد: هو أن تخرج الأسرة بـكـامـلـها إلى البر وتبقى تحت ظل، (خباء تنصبه عليها)، وتستسلم للموت واحداً بعد الآخر حتى يفنوا عن بكرة أبيهم، وقـام هـاشم بن عبد مناف بمعالجة ذلك حتى لم يبقَ بمكة بعد ذلك مَنْ اضطر إلى الاعتفاد، فهل هذه حياة أم أموات يتنفسون إلى أن يموتوا ويُدفنوا بالرمال؟
- الحياة الحقيقية
هي الحياة في ظل القيم والمبادئ والفضائل التي تجعل من الحياة جنة من جنان الله في الأرض كما فعل رسول الله، صلى الله عليه وآله، في مدينة يثرب عندما هاجر إليها بنفسه المقدسة ورسالته المباركة التي تدعو إلى الحياة الحقيقية في ظل القيم والمكارم ومحاسن الأخلاق فرفعهم من الحضيض والدُّون، إلى أعلى قمم الحضارة خلال عقد من الزمن فقط وهذا ما أبهر علماء الاجتماع في أوربا لا سيما (مايكل هارت) عندما كتب (المائة الأوائل أو الأكثر تأثيراً في حياة البشرية) فكان الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، هو الأول رغم كل الاعتراضات التي جاءته إلا أنه أصرَّ على رأيه وصمَّم عليه لأنه قال: “لقد اخترت محمد، صلى الله عليه وآله، في أول هذه القائمة، ولا بدَّ أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمداً (عليه السلام) هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الدِّيني والدنيوي.. وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً، وبعد 13 قرناً من وفاته، فإن أثر محمد، صلى الله عليه وآله لا يزال قوياً متجدّداً”.
⭐ الاعتفاد: هو أن تخرج الأسرة بـكـامـلـها إلى البر وتبقى تحت ظل، (خباء تنصبه عليها)، وتستسلم للموت واحداً بعد الآخر حتى يفنوا عن بكرة أبيهم، وقـام هـاشم بن عبد مناف بمعالجة ذلك حتى لم يبقَ بمكة بعد ذلك مَنْ اضطر إلى الاعتفاد
ولكن لو سألنا ما يكل هارت أين الإبداع في شخصية النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، لقال: “أكثر هؤلاء الذين اخترتهم وُلدوا ونشأوا في مراكز حضارية ومن شعوب متحضرة سياسياً وفكرياً، إلا محمداً، صلى الله عليه وآله، فهو وُلد سنة 570 ميلادية في مدينة مكة؛ جنوب شبه الجزيرة العربية في منطقة متخلفة من العالم القديم، بعيدة عن مراكز التجارة، والحضارة، والثقافة، والفن”.
ثم يقول هارت: “لما تُوفي الرسول، صلى الله عليه وآله، كان الإسلام قد انتشر في جنوب شبه الجزيرة العربية.. وكان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين أيضاً، رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة.. ولكن الرسول، صلى الله عليه وآله، استطاع، لأول مرة، في التاريخ، أن يوحّد بينهم، وأن يملأهم بالإيمان، وأن يهديهم جميعاً بالدعوة إلى الإله الواحد، ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية فاتسعت الأرض تحت أقدام المسلمين من شمال شبه الجزيرة العربية وشملت الإمبراطورية الفارسية على عهد الساسانيين، إلى الشمال الغربي، واكتسحت بيزنطة والإمبراطورية الرومانية الشرقية”.
نعم؛ هذا الذي جاء به الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، من الحياة والدَّعوة إلى الحياة الراقية والطيِّبة والسَّعيدة في ظل شرع الله، وحكم القرآن الكريم، فلو أخذوا كل ما آتاهم، وتركوا الأمر لأهله ممن اختارهم الله تعالى، لأكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم، ولعاشوا عيشة الجنَّة في السماء على هذه الأرض، ولكنهم سوَّلت لهم أنفسهم، وحَلِيت الدنيا بأعينهم وراقهم زخرفها وزبرجها، فأخرجوها من معدنها وتناقلوها في بيوتهم الجاهلية حتى وصلت إلى أبغض الخلق والخليقة إلى الله ورسوله من أبناء الشجرة الملعونة في القرآن، الزقومية الأموية والمروانية، فشوَّهوا التاريخ وأفسدوا كل شيء استطاعوا إفساده.
- تشويه صورة المبعث الصافية
الذين شوَّهوا صورة هذا اليوم العظيم، بالمبعث الشريف بما دسُّوا به من أحاديث إسرائيلية وروايات أموية وزبيرية لتشويه الصورة الناصعة للرسول الأكرم، بما افتروا عليه من أقوال تليق بهم وحاشاه منها، كقولهم: (إنه كان خائفاً ومرعوباً وحتى فؤاده يرتجف من الخوف)، و(إنه كان مضطرب النفس حتى أخذته السيدة خديجة إلى ابن عمِّها ورقة بن نوفل النصراني فبشره)، أو (إنه كان مهتزاً نفسياً فكان يحاول أن ينتحر ويلقي نفسه من شاهق، أو حالق)، وغيرها من هذا الأكاذيب الأموية والزبيرية.
فالرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، أعلم الخلق بمَنْ جاء إليه، وبماذا جاء من عند ربه، فهو الذي كان (نبياً وآدم بين الماء والطين)، لا يمكن أن يكون كما يصفه هؤلاء الأشقياء، فصورة المبعث الصافية علينا أن نعرفها من القرآن الكريم، وأحاديث الراسخين في العلم، ومَنْ عندهم علم الكتاب وهم أهل البيت الأطهار الأبرار، وليس من صبيان النار وأبواق السلاطين، ومزامير الشياطين، من أمثال الزهري، وأبو سنور، وكعب الأحبار، وغيرهم من أمثالهم. فالمبعث هو اليوم العظيم الذي نزل به جبرائيل، لتبدأ رحلة نزول القرآن منجَّماً ومفرَّقاً لتصنع حياة الأمة الإسلامية، ومن ثم لترسخ أسس وقواعد الحضارة الإنسانية التي عرقلها رجال قريش، ومَنْ جاء بعدهم إلى اليوم، ولكن سيأتي اليوم الذي يتحقق ذلك بحفيد صاحب الدَّعوة المباركة للحياة الطيبة المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، ويقوم على اسم الله في العالمين فيلأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً بإذن الله تعالى.