استفاد الإمام الجواد، عليه السلام، من الفرصة الذهبية بتمهيد الاجواء والظروف له ليواصل مسيرته الرسالية بنشر علوم ومعارف جدّه رسول الله، والأئمة من أسلافه، فلم يبق في بغداد؛ عاصمة الدولة العباسية بعد الانتهاء من مراسيم الزواج من بنت المأمون سنة 204 للهجرة، إنما عاد الى مسقط رأسه، ومنطلق الرسالة ومهبط الوحي؛ المدينة المورة ليفتي الناس في شؤونهم مبيناً لهم الأحكام والتعاليم كما هي على سنّة جدّه المصطفى، ووفق ما جاء في كتاب الله المجيد، وأيضاً التصدّي للتيارات الفكرية الرامية لإبعاد الأمة عن مسارها الصحيح.
ومن الجدير أن نشير هنا الى جانب من سيرة المأمون العباسي لما له من بعض التأثير في حياة الإمام الجواد، الذي نحتفي في اليوم العاشر من شهر رجبّ الأصب بذكرى مولده السعيد، فقد كان المأمون في خراسان بعد ان دسّ السمّ الى الامام الرضا، عليه السلام، واغتياله سنة 202للهجرة، بينما كان الإمام الجواد في المدينة، كما جاء في تاريخ المسعودي، وبعد عامين على ذلك؛ أي سنة 204 وصل المأمون الى بغداد التي كان يحكمها ابن عمه ابراهيم بن المهدي عادّاً نفسه “الخليفة العباسي الشرعي” خلفاً للأمين.
⭐ الموقف الحازم والرسالي للإمام الجواد، عليه السلام، بصيغة زمانه وظروفه السياسية والاجتماعية أن كتب الى شيعته ومواليه في بغداد بأخذ الحيطة والحذر من الانزلاق في الفتنة العمياء
بيد ان شخصية المأمون القوية سياسياً وثقافياً ـ كما يصفه المؤرخون- جعلته يحكم سيطرته على العراق الى جانب خراسان، ويتميز على سائر الحكام العباسيين بسياسة الاحتواء لاتباع أهل البيت، وأئمتهم؛ وتحديداً الإمامين؛ الرضا والجواد، عليهما السلام، وهو ما أغاض كبار العباسيين وشيوخهم، فكان يرد عليهم بخطل رأيهم وقصر نظرهم وضيق أفقهم، وحبّهم الأعمى للسلطة، بينما هو كان يعد نفسه محبّاً للسلطة لكن بعيون مفتوحة، ومن هنا جاءت خطوته الثانية في هذا الاتجاه؛ بعد قضية ولاية العهد، تزويجه ابنته من الإمام الجواد.
ونفس هذا المأمون الذي يكتب بعض المؤلفين عن سيرة الأئمة المعصومين، الى جانب المؤرخين بأنهم “كان يميل الى الشيعة، والى الأئمة المعصومين، ويحفظ مكانتهم”، اتخذ موقفاً غريباً من الصراع العقدي بين الأشاعرة والمعتزلة الذين اختلفوا على كون الحُسن والقبح من العقل أو لا، فقد قال الأشاعرة بأنهما من الشرع وليس من العقل، ومنه مثلا؛ أن بامكان الله ـ تعالى- أن يدخل الظالم والمجرم الجنة بناءً على حكم منه، وهو ما عارضه المعتزلة، ثم أضافوا (المعتزلة) نظرية خطيرة تقضي بأن القرآن الكريم مخلوقاً، وتحدثوا عن وحدة الصفات الإلهية، فنفوا أن يكون القرآن كلاماً لله ـ تعالى-، وأن الصفات الإلهية ليست من ذات الله، فليس الله ـ مثلاً- رزاقاً، ولا كريماً، ولا ستاراً، وهو ما يتقاطع مع عقيدة أهل البيت، عليهم السلام، وما قال به رسول الله، صلى الله عليه وآله، فقد نزلت الآيات الكريمة عليه في مناسبات عديدة في مكة، ثم في المدينة حسب ظروف ومقتضيات ذلك الزمان، رغم كل ذلك؛ أعلن المأمون وقوفه الى جانب المعتزلة معلناً الاعتزال مذهب الدولة الرسمي، بل أمر بوضع السيف على رقبة كل ما لا يقول بقولهم!
⭐ رغم قصر سني إمامته، عليه السلام، فقد وفّر الحصن الثقافي والفكري للأمة في حياته الشريفة، وترك لنا إرثاً ضخماً في العلم والمعرفة وتجارب تفيد الأمة على مرّ الزمن
هنا كان الموقف الحازم والرسالي للإمام الجواد، عليه السلام، بصيغة زمانه وظروفه السياسية والاجتماعية أن كتب الى شيعته ومواليه في بغداد بأخذ الحيطة والحذر من الانزلاق في هذه الفتنة العمياء، وتجنب النقاش في هذه المواضيع، وجاء في الرسالة: “نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة، واشترك فيها السائل والمجيب، فيعاطى السائل ما ليس به، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلا الله عزّوجل، وما سواه مخلوق، والقرآن الكريم كلام الله”.
وبذلك أكد الإمام الجواد رؤيته الدقيقة للعقيدة الحقّة ومعارضته لكل الأقوال والنظريات المتطفلة على الدين من قبل أناس لم يفهموا الدين بشكل صحيح، بما يمكن وصف هذا الموقف بالحياد الايجابي بين الفريقين المتنازعين، وحفظ، عليه السلام، الشيعة من المواقف المحرجة أمام جلاوزة المأمون في بغداد وسائر الأمصار الاسلامية.
في الوقت نفسه عزز الإمام الجواد، عليه السلام، الرصيد العقدي لدى شيعته، بل وجميع المسلمين حسب توفيقهم للانتهال من علومه الربانية، فخلال سني وجوده في المدينة أجاب على مئات، بل آلاف الاسئلة في مجالات العقيدة، والفقه، والتفسير، والأخلاق، منها؛ سؤال أحدهم؛ ما معنى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وما معنى الأحد؟ قال، عليه السلام: المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، ثم يقولون بعد ذلك؛ له شريك وصاحبة!
وسُئل عن وحدة صفات وأسماء الله، وهل أن أسماءه وصفاته في كتابه، هي هو؟
قال، عليه السلام: “لا تكون الصفات هي هو إن قصدت التعدد والكثرة، فهي تتنافى مع الوحدانية، وإن كان المُراد “لم تزل” عنه، في علمه وهو يستحقها، فنعم”.
وهنا يلقم أدعياء توحيد الصفات الحجر، بأن الصفات الإلهية المذكورة في القرآن هي في علم الله، وانه يستحقها، فاذا قلنا أن الله قدير، فقد نفينا عنه العجز، واذا قلنا عنه أنه عالم، فقد نفينا عن الجهل، وهكذا سائر الصفات. ورغم قصر سني إمامته، عليه السلام، فقد وفّر الحصن الثقافي والفكري للأمة في حياته الشريفة، وترك لنا إرثاً ضخماً في العلم والمعرفة وتجارب تفيد الأمة على مرّ الزمن في طريقة التعامل مع الشبهات والفتن التي تستهدف بالدرجة الاولى؛ العقيدة والفكر والأخلاق.