الجذر هو الأساس، وهو بداية وجود الكائنات، كذلك هو بداية حياة النبتة أو النبات، فمثلا شجرة البلوط العملاقة التي تنتشر في الغابات الكثيفة، هذه الشجرة العملاقة تبدأ ببذرة صغيرة يتمّ دسَّها في التربة لـ (تتجذَر) فيها جيدا، ثم تبدأ عملية النمو، والعملية الأخيرة يمكن أن تتم بشكل جيد ومتواصل، ويمكن أن يكون النمو متوسطا أو متذبذبا، وأحيانا قد يكون بطيئا، وفي النهاية قد يتوقف نمو هذه الشجرة، في حالة موت الجذر.
أخذنا الجذر في هذا المقال مجازاً كي نتكلم عن جذور التربية التي يحتاجها الإنسان، أو بالأصح البذرة التربوية التي يتم غرسها في (تربة) الإنسان بانتظار طبيعة وطريقة نموّها، فهل هو نمو جيد متصاعد ومستديم، أو أنه متوسط في نمائه، أم هو ضعيف ولماذا؟
البذرة التربوية، تبدأ في المؤسسة الاجتماعية الأصغر وهي (الأسرة أو العائلة)، هذه الأسرة وتحديدا الأب والأم والأخ الأكبر، يمثلون الفلّاح الأول الذي يزرع البذرة التربوية والأخلاقية والسلوكية، في تربة الإنسان (الطفل) الذي يحلّ أو يولد في هذه الأسرة.
فإذا غُرِسَت البذرة التربوية بطريقة صحيحة، وفي تربة صالحة، فإنها سوف تنمو بشكل متصاعد وصحيح، وشيئا فشيئا تكبر وتنمو وتتصاعد إلى أن تصبح شجرة مثمرة، ويمكن أن يحدث العكس، إذا تقاعس الأبوان في رعاية الجذر التربوي للابن أو البنت.
⭐ إذا غُرِسَت البذرة التربوية بطريقة صحيحة، وفي تربة صالحة، فإنها سوف تنمو بشكل متصاعد وصحيح، وشيئا فشيئا تكبر وتنمو وتتصاعد إلى أن تصبح شجرة مثمرة
حدّثني أبي ذات مرة عن الفرق بين الجذور على أساس الاهتمام، وضرب لي مثلا حيّا عن شجرتين من نوع واحد، وهما شجرتا برتقال، واحدة في حديقة الجار المقابل لنا، والأخرى في حديقة البيت الملاصق لبيتنا، الشجرة التي تقع في مقابل بيتنا كانت عليلة، أغصانها قليلة الأوراق، وحتى هذه الأوراق القليلة ليست خضراء، بل لونها شاحب يميل للاصفرار.
أما شجرة الجار الملاصق لبيتنا، فتبدو للناظر كثيفة الأغصان، خضراء الأوراق، فيها حيوية تسر من ينظر إليها، بل حتى عبق القدّاح يتدفق منها على الجيران، الفارق بين الشجرتين هو الاهتمام، من حيث الرعاية، تسميد الأرض، والسقي، ورشّ المبيدات ضد الحشرات، والتقليم وحرث الأرض، هذه الخطوات مهمة جدا للإبقاء على أرض الشجرة صالحة، وللإبقاء على الجذور محاطة بالماء والأسمدة، ومن ثم بقاء الشجرة على قيد النمو الصحيح.
المثال الثاني الذي نقله لي أبي أيضا، وضربه مثالا عن رعاية الآباء للجذور التربوية لأبنائهم، وهذا حدث في منطقتنا السكنية أيضا، فهناك أب كان يحرص على نهوض ابنه في وقت صلاة الفجر، ولا يسمح له بمواصلة النوم قبل أن يؤدي هذه الصلاة في وقتها المبكّر، وكان هذا الأب يتبّع طريقتين مع ابنه، الأولى الإقناع وتوضيح فوائد الصلاة فجرا، وما سيعود على الابن من فوائد حين يعتاد على النهوض مبكرا، والطريقة الثانية يجبره إذا اضطر إلى هذا الأمر، ولكن مع مرور الأيام لم يعد الابن بحاجة لأبيه في الاستيقاظ وأداء الصلاة، بل صار يستيقظ من دون مساعدة أبيه بعد أن تعوّد الالتزام في ذلك.
الأب الثاني وهو يعيش في منطقتنا أيضا، ترك الحبل على الغارب في تربية ابنه، فهو شخصيا كان ينهض لأداء صلاة الفجر، لكنه حاول مرة وأخرى وثالثة مع ابنه ثم تركه لحاله بعد أن يئس منه في النهوض للصلاة مبكّرا، ومع مرور الأيام والشهور والسنوات، كبر هذا الابن واعتاد على عدم أداء صلاة الفجر، فقاده هذا السلوك إلى البقاء نائما ومستمرا في النوم حتى ساعة متأخرة من النهار، تصل به أحيانا حتى وقت الظهيرة، فنشأ هذا الابن كسولا وفاشلا مما أثّر عليه ذلك حتى في الدراسة وفي مهارات العمل.
⭐ أهمية رعاية الجذور التربوية للأبناء، صحيح قد تكون متعِبة، وتحتاج إلى تنظيم وإصرار من الآباء وأولياء الأمور، لكنها تستحق هذا التعب وهذا العناء، لأنها تخص بناء شخصية الابن، ونجاحه وفشله يعتمدان على هذه الرعاية التربوية
لقد لاحظتُ بنفسي الفارق بين هذين الابنين، لقد نجح الابن الأول الذي رعاه أبوه رعاية صحيحة، وتابعهُ في ذلك جيدا، وعلّمه على القيام بصلاة الفجر دون أن يتذمر أو يتأخر عنها، وهذا انعكس على شخصية الابن وقاده إلى النجاح في حياته، على مستوى العمل والإصرار والتفوّق في مجالات عديدة.
ومع مرور الوقت تمسك هذه الابن أكثر بالصلاة التي زرعت في كيانه وشخصيته حالة الانضباط التام، والإصرار على إنجاز المهام المختلفة بنجاح.
الابن الثاني الذي تقاعس عن النهوض لأداء صلاة الفجر، وأهمله أبوه أيضا، لم يصل إلى نصف ما وصل له الأول من حيث النجاح في الحياة وحتى في العمل، لماذا، لأن الصلاة هي حالة بناء وليست حالة عبادية فقط، إنها تعلّم الإنسان على الانضباط منذ نعومة أظفاره، فلو أن الأب الثاني رعى الجذر التربوي لابنه جيداً، وصبر عليه في هذا النوع من التربية، وأصرَّ على تهذيبه جيدا، لكان ابنه في حال أفضل. هذه هي أهمية رعاية الجذور التربوية للأبناء، صحيح قد تكون متعِبة، وتحتاج إلى تنظيم وإصرار من الآباء وأولياء الأمور، لكنها تستحق هذا التعب وهذا العناء، لأنها تخص بناء شخصية الابن، ونجاحه وفشله يعتمدان على هذه الرعاية التربوية، من هنا لابد أن ينتبه الآباء إلى رعاية الغرس الأول، ومراعاة الجذر الأول والنبة التربوية الأولى، حتى ينمو أبناؤهم بطريقة سليمة وصحيحة ومتصاعدة.