في كتابه المتميز الذي حمل عنوان “فاطمة وفاطميون” ركز الكاتب الكبير عباس محمود العقاد على الجانب البلاغي للسيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام، وقد أبرز هذا الجانب من خلال التركيز على جزالة الأسلوب وعمق المعنى والمفارقة اللغوية في معاني المفردات، بما يستحقه العمق البلاغي للسيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام، وهي التي نهلت علْمَها ولغتها وبلاغتها من معين أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله.
ترعرعت، عليها السلام، في واحة البلاغة العلوية، وازدادت من مغارسها المتفرّدة، حيث عاشت زوجة لسيد البلغاء الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، ونهلت من بلاغته وخطابته، وأخذت عنه تنوع المفردات وغزارتها وسطوعها، وجزالتها، وتعدد معانيها وعمق بيانها، وقوة تأثيرها في القارئ والسامع على حد سواء.
⭐ ترعرعت، عليها السلام، في واحة البلاغة العلوية، وازدادت من مغارسها المتفرّدة، حيث عاشت زوجة لسيد البلغاء الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، ونهلت من بلاغته وخطابته
يقول عباس محمود العقاد في كتابه المتميز [فاطمة والفاطميون] (1): “قال الإمام أبو الفضل أحمد بن طاهر في كتاب بلاغة النساء: “لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله فدك، وبلغ فاطمة لاثت خمارها على رأسها، وأقبلت في لمّة من حفدتها تطأ ذيولها، ما تخرم من مشية رسول الله، صلى الله عليه وآله، شيئا حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها ملاءة ثم أنَّتْ أنَّة أجهش القوم لها بالبكاء وارتجّ المجلس، فأمهلت حتى سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، فافتتحت الكلام بحمد الله والصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وآله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها فقالت: {قد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، فإن تعزوهُ تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلَّغ الرسالة صادعا بالنذارة، مائلا عن مدرجة المشركين، ضاربا لثجنهم آخذا بكظمهم، يهشم الأصنام، وينكث الهام، حتى هُزم الجمع وولوا الدبر، وتفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وحُرست شقائق الشياطين، وكنتم على شفا حفرة من النار، مُذقة الشارب، ونهرة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطريق وتقتاتون القدّ، أذلّة خاشعين، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله برسوله، صلى الله عليه وآله، بعد اللتيا والتي، وبعد ما مُني بِبُهْم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، كلما حشوا نارا للحرب أطفأها”.
كما عرض العقاد للقدرات الأدبية المتميزة للسيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام، وتكلم عن الشعر الذي قالته في استشهاد أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، وقد أبدعت أيما إبداع، إذ يقول العقاد: نُسبت إلى السيدة فاطمة، عليها السلام أبيات من الشعر قالتها بعد موت أبيها صلوات الله عليه أنها بعد دفنه أقبلت على أنس بن مالك فقالت: “يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟” ثم بكت ورثتْه قائلة:
اغبرّ آفاق السماء وكُورت شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبي كئيبة أسفا عليه كثيــــــــرة الرجفان
فلْيبكه شرق البلاد وغربها ولْتبكِـــهِ مضر وكل يمــــان
ولْيبكه الطود المعظّم جوده واليت ذو الأستار والأركـان
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه صلى عليك منزل القرآن (2)
أما الدكتور ميشال كعدي فقد تناول في كتابه القيّم الذي يحمل عنوان “فاطمة الزهراء عليها السلام أولى الأديبات” الجانب الأدبي والبلاغي أيضا، حيث تقول الكاتبة نسرين نجم في مقال لها عن هذا الكتاب الجدير بالقراءة:
تأثر الدكتور ميشال كعدي بهيبة وعظمة شخصية السيدة الزهراء عليها السلام، فأبحر في خطبها ومواقفها وكلماتها، وأظهر من خلال كتابه “الزهراء عليها السلام أولى الأديبات”؛ المكانة التي تسكنها الزهراء في وجدانه، إذ يرى بأن “الزهراء من خلال حياتها، وتصرفاتها في بيت الرسول، ومن خلال مكانتها الدينية والإنسانية، قديسة. الزهراء منذ الصغر عرفت بالعبقرية، وقد برزت في آل البيت والتاريخ الإسلامي رائدة وقدوة.
والزهراء هي مدرسة إنسانية عظيمة بحدّ ذاتها، ولا يعتبرها كعدي أولى الأديبات، بل الكاتبات والخطيبات فيقول: “بلى إنها الكاتبة الأولى في الإسلام. لقد اهتمّت بشكل واضح وواسع بالعلم وأحاديث النبي التي حفظت الكثير الكثير منها، وقد تمكّنت من أحكام الإسلام، وما جاء فيه من معارف وتعاليم، وغالباً ما كانت تسجل عندما كان رسول الله يتكلم بوحي القُدُرات، أو ما كان يحدّثها به أمير المؤمنين علي، عليه السلام. من هذا المنطلق، تمكنّت من المعرفة الشاملة والحديث الديني الفاعل، والكتابة المبدعة، والخطابة المؤثرة في النفوس.
من الواضح بأن كتاب الدكتور ميشال كعدي حول الزهراء، عليها السلام، قد أخذ وقتًا وجهدًا كبيرين، ليصدر بهذه الإطلالة الأدبية الراقية والعميقة، ويؤكد هو الأمر بقوله: “طلب إلي وأنا في إيران أن أكتب كتابًا بعنوان “الإمام زين العابدين والفكر المسيحي”، فقد أتممته بسبعة أشهر، بعده، دفعتني النخوة أن أجعل للمرأة مكانة كبيرة من خلال مؤلّف “الزهراء أولى الأدبيات”، ومن الطبيعي جداً أن أنوه برغبتي في هذا المجال، لأنني مغرم بآل البيت، ولأنني هكذا رأيت التأليف سهلاً عليَّ، على رغم الصعوبات بإيجاد المراجع في البلاد العربية. لكنني وُفّقت بمراجع في المكتبات الأوروبية، وقد سهّل فعلاً ذلك روح الزهراء وقداستها، التي لا لبس فيها بنظري، وقد أسند رأي أصحاب الصّحاح والمسانيد كالبخاري والحاكم النيسابوري وغيرهم، واعتراف الناس بعلمها وذكائها”(3).
ويرى الدكتور كعدي أيضًا بأن: “آل البيت عاشوا مرحلة صعبة من الاضطهاد والعذاب واغتصاب الإمامة وقهر الإسلام، والمعروف أن فاطمة الزهراء هي زهرة آل البيت، وآل البيت غير مرغوب بهم من المناهضين لهم، انطلاقاً من هذه الفكرة، من الطبيعي بمكان أن تقول بصراحة الزهراء هي من آل البيت ولآل البيت فقط”.
ينظر الدكتور ميشال كعدي إلى الزهراء، عليها السلام كونها قيمة إنسانية كبيرة وهبة ربانية عظيمة الشأن، وقد منحها الباري ـ عزّ وجلّ ـ خصائص عديدة يتحدث عنها المؤلف بقوله: “من خصائص الزهراء الاعتراف بثقافتها وفضائلها، ومناقبها وسماتها الفضلى، وفي إطار علمها وأدبها الجم الذي امتازت به، وجدنا الناس كلّ الناس قد تفاعلوا مع أحاديثها وأقوالها وخطبها ولا سيما هذه الخطبة التي ألقتها بعد وفاة رسول الله. هذه الخطبة، جسدت خصائصها ومميزاتها الإنسانية والأخلاقية والدينية، ومن خصائصها التي وجدناها في هذه القدسية، اهتمامها بالرسالة التي برز فيها أدبها الشامل، وبالمجمل فهي عاشت بمجتمعها ودينها والإنسان والمسلمين ولزوجها، قبل أن تعيش لنفسها، وعبر هذه الخصائص والمميزات جعلتنا نقرّ بها، بأنها مدرسة إنسانية وأخلاقية وأدبية ودينية متكاملة”.
⭐ كل ما قلناه عبر هذه الأسئلة، يظهر لنا وللقارئ عظمة السيدة الزهراء، وكل ما أوردناه بيّن أن هذه العظيمة في نساء العالم، هي قدوة ورسالة لبني البشر في عالم تسوده المادة والأنانية
وكان لا بدّ من طرح سؤال على الدكتور كعدي، في ظل الأجواء الدينية المشحونة بالتعصب وبالتطرف، فكيف أن شاعراً مسيحيّاً تناول السيدة الزهراء بكتاباته مع ما ينسب إلى الإسلام؟ وإلى أي حدّ يساهم هذا الأمر في تعزيز التقارب والتواصل بين أبناء الديانات السماوية؟
فأجاب بكل محبة: “لعلّني الوحيد الذي خص السيدة الزهراء بكتاب وقصيدة وكذلك السيدة زينب بقصيدة. ولعلّني الوحيد الذي قارب بين العذراء مريم والسيدة الزهراء، ولعلّني بتواضع الذي عرف الإسلام والمسيحية عن قرب وقارب بينهما بدقة ووضوح، من خلال دراساتي اللاهوتية والدينية. وعبر هذه المسؤولية التي أخذتها على عاتقي، وضعت التقارب والتواصل في خدمة الديانات السماوية، والدليل على ذلك إضافة إلى ما قلناه في السيدة الزهراء كتاب الإمام زين العابدين والفكر المسيحي”.
كلام الدكتور كعدي دفعنا إلى سؤاله، ونحن نعيش في عالم مادي مليء بالمغريات وسيطرة “الأنا”، عن مدى حاجتنا إلى الاقتداء والتماهي بهذه الشخصية العظيمة: “كل ما قلناه عبر هذه الأسئلة، يظهر لنا وللقارئ عظمة السيدة الزهراء، وكل ما أوردناه بيّن أن هذه العظيمة في نساء العالم، هي قدوة ورسالة لبني البشر في عالم تسوده المادة والأنانية”.
وهذه أبيات من قصيدة (في الزهراء أولى الأديبات) للدكتور ميشال كعدي يقول فيها:
زهراءُ، هذا أنا، وشعلـــــــــــــــةُ الأدبِ
ففي خُطاك الحِجى، وطلة الحسب
على يديّ، حملت الحرف مــؤتلقًا،
يغوى بفاطمة، وروعة الخُطـــــــب
زهراؤنا، من مدائن الضيا وُهبــــت
علمًا وفهمًا، نهىً، وطيب منسكب
يا زهرة الدين، في آلٍ وفي رشدٍ،
ضمختُ قولي بِطهر، شال بالنسب
عذراؤنا مريم قالت منائرها:
القدس تكبو ودُنيا العرب في غرب.
الخلاصة أن أوجه التقارب بين الكاتبين (العقاد و ميشال كعدي) كلاهما ركز على لغة الخطاب الفاطمي، وتطرقا إلى الجانب الأدبي، وتناولا شعر السيدة الزهراء، عليها السلام، وفي نفس الوقت أظهرا القوة البلاغية في خطب وكلمات السيدة الزهراء، عليها السلام، ومدى تأثيرها العميق في المستمع لها والقارئ لخطبها على حد سواء، مما يُضيف للقارئ معانٍ جديدة ورؤى غاية في العمق والأهمية.
1- فاطمة والفاطميون، ص 38.
2- المصدر نفسه.
3- فاطمة الزهراء عليها السلام أولى الأديبات.