أرأيت بعض الناس يتیه في الدرب وهو لا يدري الى اين يولّي وجهه، هل إلى اليمين أم إلى اليسار؟ هل ينتمي لهذا الخط أو ذاك؟ هل يتبع توجيها قادماً من الشرق أو ثقافة مستوردة من الغرب؟
أرأيت مثل هذا الإنسان كيف يضيع في حياته بينما هو يملك خارطة طريق واضحة تهديه السبيل وهو غافل عنها؟
لهؤلاء جاءت الخارطة واضحة في الآية المباركة[1] التي تخاطبهم بالقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}.
⭐ البِرّ هو الصلاح والخير، فليس من صلاحك وخيرك أيها الانسان أن تتجه نحو الغرب والشرق باحثاً عن خارطة طريق لحياتك، إنما الخير والصلاح هو في ما يرسمه الله تعالى
البِرّ هو الصلاح والخير، فليس من صلاحك وخيرك أيها الانسان أن تتجه نحو الغرب والشرق باحثاً عن خارطة طريق لحياتك، إنما الخير والصلاح هو في ما يرسمه الله تعالى لك في عشر نقاط واضحة وبيّنة حيث يقول: {وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ} أي طريق الخير والصلاح هو فيما يأتي:
1- {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فالايمان بالله هو حجر الأساس في برنامج الانسان في الحياة، وهو المنطق السليم لاختيار الطريق والسير بأمان، بحيث يعطيك خير الدنيا والآخرة.
2- {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الايمان بالقيامة هو الذي يجعلك تسير في حياتك على صراط مستقيم، لأنك تؤمن بأنَّ كل حركاتك وسكناتك، كل برامجك وعلاقاتك، هي تحت المجهر، وسوف تحاسَب عليها في يوم الحساب.
3- {وَالْمَلَائِكَةِ} ماذا يعني، ولماذا الايمان بالملائكة؟ ربما يعني معرفة أنّ الملائكة ليسوا آلهة أو أبناء الإله كما يزعم البعض، بل هم مخلوقون مطيعون لله ويقومون بادارة شؤون الكون بإذن الله تعالى، فهذا الإيمان يعمق رؤية التوحيد في القلب.
4- {وَالْكِتَابِ} فالله ـ تعالى ـ لم يترك أفضل مخلوقاته – وهو الإنسان – على غير هدى، بل جعل له الكتاب نوراً فيه تفصيل كل شيء.
5- {وَالنَّبِيِّينَ} فالأنبياء هم سفراء الله للإنسان، وحملة كتبه ورسالاته، وهم ايضا – كالملائكة – ليس أحدٌ منهم ابن الله، بل هم بشر مثلنا، يتميّزون عنا بأنَّ الله اصطفاهم واجتباهم هم ليكونوا الوسيلة بينه وبين البشر، والهداة الى الله.
بعد النقاط الخمس التي ترتبط بجانب الايمان والعقيدة، تنتقل الآية في بيان طريق البر والخير والصلاح الى البرامج العملية، فتقول:
6- {وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ}، فرغم حبّه للمال فإنَّ المؤمن يؤتيه ويعطيه للآخرين، ومما يلفت النظر هنا هو أن الانفاق التطوعي يأتي في بداية قائمة الأعمال والعبادات.
أما مفردات المنفق عليهم، فالاية تهدينا لترتيب لابد من مراعاته:
ألف: {ذَوِي الْقُرْبَ}، فالانفاق قبل كل أحد يكون للأرحام والأقرباء الذين يأتون في المرتبة الأولى، بخلاف ما نرى عند البعض حيث ينفق على الأباعد ويترك الأقربين في الفقر والمسكنة والحاجة.
باء: {وَالْيَتَامَىٰ} الذين لا راعي لهم، وهم من الحلقات الضعيفة في المجتمع، وقد يتعرضون للاستغلال وإغماط حقوقهم، فهم قد يكونون أكثر الناس حاجة للمساعدة المالية، خاصة وأنهم صغار لم يبلغوا مرحلة الاستقلال والوقوف على اقدامهم بعد.
جيم: {وَالْمَسَاكِينَ} الذين أسكنتهم الحاجة والفاقة عن ممارسة الحياة الطبيعية.
دال: {وَابْنَ السَّبِيلِ} الذي قد يكون غنيا في بلده ولكنه – وهو في السفر – أصبح ذا حاجة بسبب نفاذ ما معه من المال أو ضياعه أو ما شاكل.
هاء: {وَالسَّائِلِينَ} الذين يستجدون الناس، فالقرآن يهدينا للعطاء حتى لو ظننا عدم حاجتهم، لأن السؤال يعني إراقة ماء الوجه، والمؤمن يحفظ هذا الماء بالعطاء، ولا داعي للفحص والتحقيق عن حاله.
واو: {وَفِي الرِّقَابِ} أي انفاق المال في تحرير العبيد والرقيق، وبهذا التوجيه استطاع الدين أن يقضي على ظاهرة العبودية والرق التي كانت منتشرة في المجتمعات قبل ظهور الإسلام، والذي لا يزال موجوداً في بعض المجتمعات غير المؤمنة بالدين.
بعد الانفاق التطوعي من المال رغم حبه تأتي العبادة:
7- {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} ورغم أن الصلاة عمود الدين وهي أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة كما في الاحاديث الشريفة، إلا أن الآية تذكرها بعد الانفاق التطوعي.
8- {وَآتَى الزَّكَاةَ} هذا هو الانفاق الواجب، فالزكاة – التي تشمل كل انواع الحقوق الشرعية – واجبة حسب شروطها وأحكامها الواردة في الشريعة، وهي العبادة الواجبة الثانية بعد الصلاة.
9- {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} العهد هو كل اتفاق بين طرفين، وتعهّدٍ من طرفٍ لطرفٍ آخر، فيشمل كل المعاملات والعقود والمواثيق، والوفاء بكل ذلك يعد من أهم أسس الحياة الاجتماعية السليمة، فالمجتمع الذي لا يلتزم أبناؤه بعهودهم ومواثيقهم، هو مجتمع فاسد وسائر الى السقوط والهلاك.
⭐ الايمان بالله هو حجر الأساس لبرنامج الانسان في الحياة، وهو المنطق السليم لاختيار الطريق والسير بأمان
10- {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}، وآخر نقطة في خارطة الطريق الالهية للبشر، هو {الصبر} بمعنى الاستقامة، والثبات، والمقاومة، والتحدي بإزاء المشاكل والصعوبات، فالبأساء تعني المشاكل والصعوبات، والضرّاء تعني: الضرر والخسارة من المرض ومشاكل الاقتصاد، أما البأساء فهو تعبير أخر عن الحرب.
فالإنسان يصبر ويقاوم بازاء كل ذلك حتى يستمر في التقدم في حياته، وفي تجاوز العقبات للوصول الى مرضاة الله.
وفي ختامها تصرِّح الآية الكريمة بأن كل ما ذُكر من مفردات البر، أي الخير والصلاح وطريق الهدى، هي دليل صدق الانسان مع ربه، ودليل تقواه في الحياة: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
بعد التبيين والشرح لنقرأ الآية كاملة ونركِّز نقاطها في أذهانها لترجمتها الى حياتنا العملية:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْكِتَابِ، وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ، وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ، وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
[1]– الآية 177 من سورة البقرة.