يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشطيان”، وفي وصف المتقين، يقول عليه السلام: “فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ..”.
الصداقة لها أثر كبير في عقيدة الإنسان فضلا عن سلوكه، فالانسان يتأثر بالبيئة بشكل عام، ويتأثر بالبيئة الخاصة بشكل خاص، فالاجواء الاجتماعية تؤثر على معتقداته، وسلوكياته، وبالخصوص الجو الاجتماعي الصغير؛ كالديوان الذي يجلس فيه، والاصدقاء الذين يتسامر معهم، وزملائه في العمل، والدراسة، والسفر، وما شابه.
هذه المجاميع والتشكلات الصغيرة هي التي تصنع شخصية الانسان، ومن خلال تلك التكتلات الصغيرة يُصنع الجيل، في السابق كانت الاسرة هي التي يتكوّن منها المجتمع، وعادة التكتلات الصغيرة شبه معدومة الآن، لان المجتمع أصبح متداخلا مع بعضه البعض، فالتكتل الصغير ـ فيما مضى ـ كان منحصراً في الأسرة، أما الآن حتى الاسرة وبعد مضي فترة زمنية فإن تأثير في تربية الانسان ينعدم أو لا أقل ينعدم، والسبب في ذلك وجود التأثير الأجتماعي؛ التكتلات، الاصدقاء.
صحيح أن الاسرة هي التي تضع اللبنة الاولى لشخصية الانسان، لكن بعد مضي زمن، يستقل الفرد عن أسرته، أو لا يعايشها؛ فقسطاً من وقته في الدراسة، والقسط الآخر مع اصدقائه، فكم بقي من الوقت تستغرقه الاسرة مع ابنها؟
⭐ المجاميع والتشكلات الصغيرة هي التي تصنع شخصية الانسان، ومن خلال تلك التكتلات الصغيرة يُصنع الجيل
أمير المؤمنين، عليه السلام، في الرواية التي توجنا المقال بها، يحذر من مصاحبة أهل الهوى، لأن مصداقة أمثال أولئك تُعدِم روحَ الإيمان، يقول عليه السلام: “ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان”، فالانسان في بداية الامر ينشأ صالحا لكن بعد أن يكوّن صداقات، سواء في المدرسة أو أي مكان آخر، فإذا كان توجه الاصدقاء بعيدا عن الايمان تجد ذلك الشخص ينجرف معهم، ذلك أن الاجواء التي كان يعيشها في أسرته كانت اجواء ايمانية، ولم يكن فيها دعوة الى سلوك مشين، لكن حين جالس اهل الهوى، والتي ما يكون تفكيرها نابعاً عن الذات، بعيداً عن المصحلة العامة الإنسانية، ولا يكون التفكير في إطار القيم والمبادئ، فتفكيرهم منصب في كيفية اشباع الاهواء والشهوات، وشيئا فيشئا يتلاشى الإيمان، “الهوى منساة للإيمان”.
“ومحضرة للشيطان” تارة ينسى الفردُ الإيمانَ ثم يعود، وتارة أخرى يذهب الى أبعد من ذلك، فيترك الصلاة في المسجد نهائيا، ويعتدي على الآخرين؛ يسرق، وينهب، ينتهك الأعراض، ويمارس الغِيبة والنميمة، وما اشبه، كل ذلك بسبب مجالسة أهل الهوى فحين لا يكون لديهم قضية اجتماعية يناقشونها، او قضايا تهم مسيرهم ومصيرهم، يتحول ذلك المجلس الى فراغ سلبي فيكون الكلام فيه ما لا ينبغي.
⭐ الانسان المؤمن لا يدخل مجالس الردى لمجرد الجلوس بل عليه ان يسعى لتغييرها الى مجالس الهدى، وإن لم يستطع عليه أن يغادرها، فالبقاء فيها لا مصلحة فيه
اما صفات المتقي في كلام أمير المؤمنين، عليه السلام، فهو على النيقض تماما لصفات أهل الهوى، يقول عليه السلام: فخرج من صفة العمى”، فمنافذ قلبه مفتوحة تستقبل ارشدات الوحي، ومواعظ السماء، في المقابل هناك من لا يستطيع سماع ولو آية واحدة وهذا هو عمى البصيرة بعينه، يقول ـ تعالى ـ: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}.
“ومشاركة أهل الهوى”، الإنسان المتقي لا يُشارك أهل الهوى، ولا يجلس معهم حتى لا تُغلق منافذ الهدى والتقى عنده، وفضلا عن مجالسة أهل الهوى، فإن الإنسان المؤمن يدعو الناس الى الصلاح، والصلاة، والتعاون، والمحبة، والى سائر قيم السماء، ومواعظ الوحي، فيصبح بذلك من مفاتيح أبواب الهدى، ومن مغاليق أبواب الهوى والردى، وفي هذه الحالة هو يقوم بمسؤوليته الشرعية تجاه المجتمع، وهذه كله من ثمرة الاصدقاء الطيبين، ولذا من المهم أن نفكر مليّا في اختيار الاصدقاء، كما نفكر جديا في المجلس الذي نجلسه.
الانسان المؤمن لا يدخل مجالس الردى لمجرد الجلوس بل عليه ان يسعى لتغييرها الى مجالس الهدى، وإن لم يستطع عليه أن يغادرها، فالبقاء فيها لا مصلحة فيه. لابد للإنسان أن يكون دقيقا في اختيار أصدقائه، ولابد للكبار أن يعلّموا الابناء والاطفال الصغار كيفية اختيار الصديق؛ عبر الارشاد، واعطائهم قواعد وأسس سليمة في اختيار الأصدقاء، فأمير المؤمنين، عليه السلام، لا يدعو الى الاعتزال نهائيا، فدعوته هي اعتزال أهل الهوى وليس اعتزال الناس، لذا يقول عليه السلام: “أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان واعجز من ذلك من ضيّع من ظفر به”، فالعجز هو عدم الحصول على إخوة الإيمان، وأعجز من ذلك هو أن يكون للإنسان صديق مؤمن ثم يفرّط به لمشكلة بسيطة، لذلك لابد أن نحافظ على الاصدقاء الجيدين، ونهجر السيئين إذا لم نتمكن من إصلاحهم، يقول ـ تعالى ـ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}، فأصدقاء الايمان هم اصدقاء الرشاد في الدنيا، وهم الذين يقودون الإنسان الى الجنة.