انتهى آخر استعمار رسمي عام ١٩٩٩م، عندما تسلمت جمهورية الصينة الشعبية منطقة ماكاو بعد أن كانت تحت الاستعمار البرتغالي، وقبل ذلك في بداية القرن العشرين، قبيل الحرب العالمية الثانية كان ٨٤.٥٪ من العالم تحت الاستعمار البريطاني وبينهما ملاحم تحرر الشعوب.
مما يعني أن أغلب دول العالم المعاصر شهدت أنواعاً من الاستعمار، بدرجات مختلفة، لكنها تتشابه في أن المستعمِر كان أوروبياً غربياً، يحمل ثقافة خاصة، وأساليب مشابهة لجعل العالم تحت إمبراطورتيه العالمية.
الاستعمار ليست فترة زمنية لـمنطقة معينة وينتهي، بل هو أعمق بكثير، بل هو آليات إدارية وعسكرية، وعمل ثقافي منهجي، وممارسة اجتماعية اقتصادية، تعمل في النهاية لإعادة صياغة الذات المُستعمَرة وإعادة توليد لها بنفس النسخة.
تتمظهر هذه الذات المُستعمَرة في فترة الاستعمار، والأهم ما بعد الاستعمار في مختلف تفاصيل النشاط الإنساني، في الأدب والفن، والنظم القانونية، والاقتصاديات، والتعليم، بل تغور عميقاً في الحالات النفسية.
ولدراسة آثار الاستعمار وما بعد الاستعمار نشأ حقل نقدي في الدراسات الاجتماعية والإنسانية بعنوان الاستعمار وما بعد الاستعمار.
يعمل حقل ما بعد الاستعمار في جانب منه على الاشتغال الوصفي لتتبع وملاحظة وتفسير كم هائل من الممارسات الثقافية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية باعتبارها آثار ما بعد الاستعمار.
ويعمل حقل ما بعد الاستعمار في جانبه الآخر، وهو المهم، على ممارسة نقدية تحررية لتفكيك بقايا الاستعمار في الشعوب التي صيغة ذاتُها المستعمَرة، فهو يمثل مقاومة تحررية، وأحياناً عملاً ثورياً لكن عبر الفكر والثقافة.
أمثلة لا تُعدّ من القضايا التي يمكن فهمها بشكل أفضل من منظور ما بعد استعماري. منها على سبيل المثال: علاقة القانون بالدين، حيث قُنِنّ القانون الحديث في الدولة الوطنية كمقابل للفقه الذي كان هو المحور. وقد قُنن القانون بما يخدم أهداف الاستعمار.
ومنها: آليات العمل السياسي ما بعد الاستعمار، مفهوم التقدم والتنمية، حركات حقوق الإنسان وأنماطها، النسويات وأوليات خطابهم، مشاريع العَلْمَنة وأشكالها، وغيرها الكثير.
هذا الحقل غض وثري ويبدو حاسما في أمور مهمة ترتبط بالوعي الحقيقي لا الزائف للآليات العملاقة المولدة لطبيعة مجتمعنا، والسبب في ذلك إجماع ما بعد الاستعماريين أن الاستعمار الرسمي انتهى لكن الاستعمار غير المباشر نشط، ونشط جدا. أفضل ما رأيته في حدودي البسيطة كمدخلٍ تمهيدي لهذا الحقل هو كتاب “نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية” لمؤلفه آنيا لومبا، تُرجم ترجمةً رائعة على يد: محمد عبدالغني غنوم.