حين كان الإمام علي، عليه السلام، يعظ أحد المؤمنين بضرورة الانخراط في تحصيل سبل المعيشة والابتعاد عن الزهد غير المبرر، احتج عليه ذلك المؤمن قائلاً: يا أمير المؤمنين! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! فرد عليه الإمام: “ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل، أن يُقْدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره” (نهج البلاغة، خطبة: 209).
فالإمام يساوي نفسه بأقل الناس مستوى في الوضع المعيشي حتى يتحمل الفقير وضعه، ويشعر بمواساة الحاكم له، وحرصه على تغيير حاله نحو الأحسن، هذه صورة جَدّ مثالية قياساً بواقعنا المعاش، ولكنها همة المؤمنين العظماء.
-
هروب “المسؤول” من فشله!
معظم المسؤولين في بلداننا في وادٍ وغالبية المواطنين في واد آخر، فكيف نريدهم أن يشعروا بما يشعر به عامة الناس؛ فالطوابير على استحصال الخدمات الحكومية؛ صحيةً، او اجتماعية، او تعليمية، وغيرها كانت ولا تزال طويلة يعاني فيها الناس الذل وضياع الوقت والمال والروتين المُملّ، والتنقلات الكثيرة بين أروقة الوزارة الواحدة، وايضاً بين أروقة المديريات والدوائر المعنية في المحافظات، وهي في الغالب تكون في مواقع متباعدة، وعليك ان تنتقل بينها لتحصل على تواقيع عديدة، وفي كل موقع طوابير وساعات من قتل.
ولذا نجد من يُطلق عليهم صفة “المسؤول” في حالة هروب، ليس من هذا الواقع المزري الذي هم من أسهموا في ايجاده، وإنما الهروب من فشله في معالجة هذا الخطأ المنهجي الفاحش، واذا حصل أن كانت لديهم مراجعة رسمية الى دائرة حكومية، فانهم لن يكونوا ممن يقفون في الطابور عند شباك الموظفين، او في العيادات والمستشفيات العامة، ولا يرهق نفسه في التنقل من هذه الغرفة الى تلك، إنما يكتفي بمكالمة هاتفية واحدة مع رئيس الدائرة المعنية، او إشارة الى شخص متابع ومتنفذ وينتهي كل شيء خلال لحظات، وليس ساعات!
مع استثناء بعض الاخيار والصالحين ممن يخدمون ابناء شعبهم بإخلاص في الدوائر الحكومية، وهم قلّة قليلة.
في التاريخ المعاصر هنالك حالات حصلت أن قام بعض الحكام بتقمّص شخصية المواطن العادي والنزول الى الشوارع مع الناس مُتنكرين حتى يعلموا حقيقة ما يحدث، وما يعانيه الناس.
-
طعم الخدمات الحكومية في بلداننا
من المفترض أن تكون الحكومات في كل مكان خادمة للشعوب، فـ “سيد القوم خادمهم” كما يقال، بينما الملاحظ في عديد بلادنا العكس تماماً؛ فالشعوب هي التي تخدم الحكام وكبار “المسؤولين” من مدراء ووزراء، من خلال تمشية معاملاتهم الرسمية فيما هم جالسون خلف مكاتبهم، او حتى في بيوتهم الفارهة.
في العديد من الدول التي تطبق النظام الديمقراطي نلاحظ الوزراء والنواب، وحتى رؤساء الحكومات، يظهرون فجأة بين الناس وهم على متن حافلات الركاب، او في قطارات الانفاق، او يستخدمون الدراجات الهوائية، وربما يحصل أن يوقفهم شرطي المرور حين يرتكبون مخالفة مرورية. وبالتالي؛ هم يعيشون هموم شعوبهم فيعملون على حلها، أما في بلداننا، فالطبقات الحاكمة حتى على مستوى “نواب الشعب” فإن كل معاملاتهم الرسمية تجري بواسطة اشخاص متنفذين يجوبون الدوائر الرسمية لهذه المهمة، وإن حصل أن ينزلوا على الشارع فانه يبتلى بمواكب سياراتهم المصفحة التي تخلق الزحام والمعاناة لسيارات المواطنين.
إن ما ينبغي التنبه له والالتفات إليه بكل اهتمام، أن معاناة أكثرية المواطنين في بلدنا في حالة ازدياد وتعاظم، لأسباب عدة، بعضها بسبب الوضع الاقتصادي غير العادل وسوء إدارة الحكام، وبعضها بسبب التمييز بين المكونات، وبعضها بسبب ضعف الخدمات والروتين المُملّ، والفساد الإداري المستشري في الكثير من الدوائر الحكومية.
هناك نسبة كبيرة من شعوبنا تحت خط الفقر لضعف مواردها المالية، فالسكن ضيق ولا يكاد يتحمل أفراده، والأبناء يشعرون بمرارة الفقر، وهم يرون بأم أعينهم مقدار السرف والتبذير لدى عوائل الحكام والنواب والأغنياء والطبقة السياسية، وحين يكبرون يلجأون مباشرة الى العمل لتحسين ظروفهم المعيشية الضاغطة، ولكن لا توجد أمامهم فرص عمل، بل أبواب مغلقة بأقفال التمييز والاستضعاف واللاتخطيط لمعالجة هكذا أزمات.
إن قضية الحرمان والفقر والمعاناة المؤلمة في الخدمات الحكومية أمرٌ جدُ خطير، وإن لم يتم تداركها في أي بلد بسرعة فقد تتحول الى صاعق يهدد بالانفجار، ويحيل خير البلد يباباً، وحينئذ لا ينفع الندم، ولا الكلام والتحليل في الاسباب والعلل.
على الدولة ورجالها والأغنياء والعلماء والمثففين والقطاع الخاص، أن يتداركوا وضع المحرومين ويتحملوا مسئولياتهم كاملة تجاه هذا الأمر عبر حلها بجد، ومن يتجاهل ازمات الناس وينفي وجودها فلن يكون إلا كمن ينفي وجود الشمس لجلوسه في بيت مغلق لم ير فيه نورها، ولكن مع أول إطلالة له خارج بيته سيعشي نورها بصره، ويصطدم بحقيقتها التي حاول نفيها طويلاً.