يقول الله ـ تعالى ـ: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}.
تصور لو خيروك بين ان تمتلك في لحظة واحد نصف تلريون دينار، وبين أن تصبح متقاعدا، وتُعطى راتبا يسد النفقات الاساسية التي تحتاج اليها، فأيهما ستختار؟ لا شك أن كل واحد منا سيختار الخيار الاول، فلا مقارنة بامتلاك مبلغ خيالي، وبين راتب شهري.
📌 لا يمكن تصور الحياة سعيدة بتوفر الأمور المادية، فحالات الانتحار تزداد بشكل كبير في بلد كسويسرا، البلد المستقر، والذي تتوفر فيه الامكانات المادية بشكل غير متصور
ذلك أن في داخل عقل الانسان جهاز يسميه الاطباء، بجهاز المحاكاة، فحين يُخيّر الانسان بين أمرين، فإنه سيتصور نفسه ذلك الثري الذي امتلك الاموال الطائلة هذا من جهة، ومن جهة أخرى سيتصور نفسه الشخص الآخر الذي تقادم به العمر، الذي لا يكاد يمضي يومه، ويتصور بأن الاول أكثر سعادة من الآخر، فيقول في نفسه: بما أنني ابحث عن السعادة، فساختار الخيار الاول؛ اسافر الى الخارج، وألتذُّ بأجود الطعام، وألبس افخر الملابس.
الاختيار الاول ـ الحصول على مال كثير ـ لا يجعل الانسان أسعد من الخيار الثاني، فقد اُجريت مجموعة دراسات على الاشخاص الذين حصلوا على اليانصيب، وهو ان يشتري الناس بطاقات، وتجمع الاموال في شركة اليانصيب، ثم يتم عمل قرعة كل سنة، ويحصل احدهم على كل الاموال التي جُمعت، اجريت دراسة (مقارنة) بين هؤلاء الاشخاص، وبين الذين حصلوا على تقاعد براتب يستطيع أن يسد به النفقات الاساسية، وبالمقارنة بعد سنة، وجد أن الرجل الذي حصل على تقاعد، أكثر سعادةً من الرجل الاول!
المال الذي يحصل عليه الإنسان لا يأتي بدون تبعات، فكما أنه مع أي نعمة إلهية أخرى توجد أسباب للشقاء، فكذلك المال له اسباب تؤدي الى الشقاء، فالمال يجلب لصاحبه الحرص، والبخل.
وبالرجوع الى الحياة الواقعية نجد أن بعض من يحصلون على أموال كبيرة في آنٍ واحد، كأن يكون إرثاً، أو جائزة وما اشبه، فإن أول عمل يقوم به، هو قطع علاقاته السابقة، ويبدأ بتكوين علاقات جديدة، أو يعيش حالة من الوحدانية.
أغنى رجل على وجه الأرض وهو إيلون ماسك مؤسس شركة سبيس إكس، سُئل في إحدى المرات: هل تشعر أحيانا بالوحدة؟
فقال: إذا لم يكن كلبي معي فأنا استوحش من الناس!
- أين نجد السعادة؟
لذا كي نشعر بالسعادة فنحن أمام خيارين:
الاول: إبعاد كل منغصات الشقاء، وتوفر كل مستلزمات الحياة بحيث تسير الحياة بشكل جيد وطبيعي في كل الاحوال، وهذا الخيار ـ للأسف ـ غير متاح، ذلك أن الله جعل الدنيا من ضغثين؛ خير، وشر، فهي خليط منهما، ولذا من الخطأ أن يظن الإنسان أنه سيحصل في الدنيا على الخير الذي لا شر فيه، لان الخير الذي لا شرّ فيه هي الجنة، جاء في الحديث القدسي: “يا موسى اني جعلت خمسا في خمس والنساء يطلبونها فلا يجدونها: جعل الراحة في الجنة والناس يطلبونها في الدنيا فلا يجدونها..”.
الثاني: أن نمتلك مفاتيح السعادة التي نستطيع بها أن نقوى في مواجهة أسباب الشقاء؛ في حياتنا اليومية نجد أن البعض يواجه المشاكل والصعوبات الكبيرة، إلا أنك تراه صامداً، وقويّاً، في المقابل تجد شخصاً آخر مع اول مشكلة ينهار، ومع الاسف فإن بعض الشباب اليوم مصابون بالحالة النرجسية، فمع أول مشكلة يفكر بالانتحار، او بالهروب، وعدم المواجهة.
اساليب مواجهة الحياة وتقلباتها نستمدها من أهل البيت، عليهم السلام؛ من الإمام الحسين، عليه السلام، يوم عاشوراء، كيف أنه كان رابط الجأش، على الرغم من قتل اولاده وأهل بيته، نستمد ذلك من السيدة زينب، عليها السلام، وكيف أنها صبرت على المصائب بعد عاشوراء
📌 اساليب مواجهة الحياة وتقلباتها نستمدها من أهل البيت، عليهم السلام
لا يمكن تصور الحياة سعيدة بتوفر الأمور المادية، فحالات الانتحار تزداد بشكل كبير في بلد كسويسرا، البلد المستقر، والذي تتوفر فيه الامكانات المادية بشكل غير متصور، فتوفر الامور المادية ليس دليلا على السعادة، إنما السعادة تكمن في داخل الانسان، ولابد أن يغيّر الفرد ما بداخله حتى يتمكن من العيش في هذه الحياة.
من جملة تلك المفاتيح المهمة للسعادة حسب الآيات والروايات، أن يكون الإنسان سبباً في اسعاد الآخرين، لا أن يجعل من ذاته محوراً بعيداً عنهم. السعادة تكمن في تغيير المعادلة، فبدلا من ان يفكر الإنسان في إسعاد نفسه، لابد عليه من اسعاد الآخرين، لذا حين يقوم الإنسان بمساعدة الآخرين يشعر بارتياح كبير، وسعادة تغمر قلبه. يقول النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “أحب الأعمال الى الله ادخال السرورعلى المؤمن تسد جوعته تكسو عورته”.
كان النجاشي وهو رجل من الدهاقين ـ والدُّهقان هو التاجر أو زعيم المدينة ـ عاملا على الأهواز وفارس فقال بعض أهل عمله لأبي عبد الله، عليه السلام: إن في ديوان النجاشي علي خراجا وهو مؤمن يدين بطاعتك فإن رأيت أن تكتب لي إليه كتابا قال: فكتب إليه أبو عبد الله، عليه السلام: “بسم الله الرحمن الرحيم سر أخاك يسرك الله “. قال: فلما ورد الكتاب عليه دخل عليه وهو في مجلسه فلما خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد الله، عليه السلام، فقبله ووضعه على عينيه وقال له: ما حاجتك؟ قال: خراج عليَّ في ديوانك.
فقال له: وكم هو؟
قال: عشرة آلاف درهم، فدعا كاتبه وأمره بأدائها عنه ثم أخرجه منها، وأمر أن يثبتها له لقابل ثم قال له: سررتك؟ فقال: نعم جعلت فداك ثم أمر له بمركب وجارية و غلام وأمر له بتخت ثياب في كل ذلك يقول له: هل سررتك؟
فيقول: نعم جعلت فداك، فكلما قال: نعم زاده حتى فرغ ثم قال له: احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالسا فيه حين دفعت إلي كتاب مولاي الذي ناولتني فيه وارفع إلي حوائجك قال: ففعل وخرج الرجل فصار إلى أبي عبد الله، عليه السلام، بعد ذلك فحدثه الرجل بالحديث على جهته فجعل يسر بما فعل، فقال الرجل: يا ابن رسول الله كأنه قد سرك ما فعل بي؟ فقال: إي والله لقد سر الله ورسوله.
لذلك جاءت الآيات والروايات لتؤكد هذا المفهوم؛ أن الإنسان إذا كان يبحث عن السعادة، فإنها تكمن في العطاء، وليس في الأخذ، يقول الإمام الباقر: لئن احج الى بيت ربي أحب إلي من عتق رقبة ـ وكررها سبع مرات ـ ولئن أعول بيت من المسلمين أحب إلي من أحج ـ وكررها سبع مرات”.
في سورة الحديد في للآية الكريمة: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِير}، يبين ربنا أربعة أمور للإنفاق:
الأمر الأول: أن أي شيء يمتلكه الإنسان؛ من مال، وصحة، وجاه..، كلها ملك لله ـ سبحانه وتعالى ـ، والإنسان إنما هو مستَخلف: {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}.
الأمر الثاني: صدق إيمان الإنسان يتبين عند العطاء، لذلك تجد هناك من يصلي، ويصوم، لكن أن يصل الأمر بالبعض الى أن ينفق، فهو يحجم ولا يعطي من ماله شيئا.
الأمر الثالث: أن الاموال لا تبقى للإنسان، ولا هو يبقى لها، ولذا فإن عليه أن يستثمر هذه الأموال في الإنفاق.
الأمر الرابع: الأجر العظيم يدعو الإنسان الى الإنفاق، يقول الله ـ تعالى ـ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
ذات يوم ذهب الإمام الحسين، عليه السلام، مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلام له، اسمه صافي، فلما قرب من البستان رأى الغلام قاعدا يأكل خبزا، فنظر الحسين، عليه السلام إليه، وجلس عند نخلة مستترا لا يراه [الغلام]، فكان يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر، فتعجب الحسين، عليه السلام، من فعل الغلام، فلما فرغ من أكله، قال: الحمد لله رب العالمين، أللهم اغفر لي واغفر لسيدي، وبارك له كما باركت على أبويه برحمتك يا أرحم الراحمين.
📌 من جملة تلك المفاتيح المهمة للسعادة حسب الآيات والروايات، أن يكون الإنسان سبباً في اسعاد الآخرين، لا أن يجعل من ذاته محوراً بعيداً عنهم
فقام الحسين، عليه السلام وقال: يا صافي فقام الغلام فزعا وقال: يا سيدي وسيد المؤمنين إني ما رأيتك، فأعف عني. فقال الحسين، عليه السلام: إجعلني في حل يا صافي لأني دخلت بستانك بغير إذنك.
فقال صافي: بفضلك يا سيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا.
فقال الحسين، عليه السلام: رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب، وتأكل نصفه الآخر، فما معنى ذلك؟
فقال الغلام: إن هذا الكلب ينظر إلى حين آكل، فأستحي منه يا سيدي لنظره إلي، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء، وأنا عبدك وهذا كلبك، فأكلنا رزقك معا، فبكى الحسين، عليه السلام وقال: أنت عتيق لله تعالى، ووهبت لك ألفي دينار بطيبة من قلبي.
فقال الغلام: إن أعتقتني فأنا أريد القيام ببستانك.
فقال الحسين، عليه السلام: إن الرجل إذا تكلم بكلام فينبغي أن يصدق بالفعل، فأنا قد قلت دخلت بستانك بغير إذنك، فصدقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك، غير أن أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم أضيافا لك وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك.
فقال الغلام: إن وهبت لي بستانك فإني قد سبلته لأصحابك وشيعتك. (موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) – لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (ع) – الصفحة ٧٤٧).
ربنا سبحانه وتعالى ـ حينما يحدثنا عن العطاء في سورة الحشر، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}، إذا استطاع الإنسان ان يتجاوز عقبة شحة النفس، فإن باقي العقبات تسهل أمامه، وحين يحدثنا الله عن الجهاد يقول: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فمن يستطيع أن يعطي أمواله، فهو مستعد أن يبذل نفسه.