يقول الله ـ تعالى ـ: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}.
ما هي اعظم هدية تلقاها الإمام الحسين، عليه السلام في مسيرة الطف؟
الاحداث في واقعة الطف كانت متناقضة ومتضاربة؛ فتارة يسمع الإمام الحسين، عليه السلام، وهو في طريقه الى الكوفة، أن مسلما وهاني قد قتلا، وأن جسديهما يجران في أزقة الكوفة، فيحزن الإمام، وتارة يفرح الإمام حينما التحق به حبيب بن مظاهر الأسدي، ذلك الصحابي الفقيه من اصحاب رسول الله، صلى الله عليه وآله.
📌 لا يمكن أن نتصور شخصا عاقلا لا يفكر في تربية ذريته، وكذا لا يمكن تصور مجتمعا سعيداً لا يفكر في تربية الأجيال
كانت الاحداث تتوالى على الإمام الحسين، عليه السلام، فبعضها يفرح الإمام، وبعضها يحزنه، لكن ما هو أكبر سرور دخل على قلب الإمام الحسين؟
تنقل التواريخ بعد أن رحل الإمام الحسين، عليه السلام، من قصر بني مقاتل بدأ يسترجع (إنا لله وإنا اليه راجعون والحمد لله رب العالمين)، كل من كان مع الإمام سمع ذلك الخطاب، وهو يكرره مرتين الى ثلاث مرات.
تقدم علي الأكبر، عليه السلام: مما استرجعت؟
قال: “بني هومت عيناي فرأيت فارسا مقبلا وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تصير اليهم فعلمت ان نفوسنا تنعى الينا”.
فقال علي الأكبر: أولسنا على الحق؟
قال: بلى والذي إليه مرجع العباد.
قال: اباه لا اراك الله مكروها لا نبالي اوقعنا على الموت او وقع الموت علينا.
حينما سمع الإمام الحسين، عليه السلام، تلك الكلمات من ابنه علي الأكبر، كأن الإمام بدأ يسترجع مسلسل الذكريات، من اليوم الذي ولد فيه علي الأكبر، وكان في حجره، وكيف تربى ونمى، وكيف اصبح ـ وهو كبيرـ قرة عين لأبيه الإمام الحسين، عليه السلام، واصبح فدائيا في سبيل الله، وسبيل الدفاع عن المبادئ، فسُرّ الإمام بذلك، ودعا له بدعاء، ولم ينقل أن الحسين دعا لأحد غيره مثل ذلك الدعاء. قال الإمام الحسين: “جزاك الله من ولد خيرا ما جزى به ولد عن والده”.
- الطريق الى سعادة المجتمع
لا يمكن أن نتصور شخصا عاقلا لا يفكر في تربية ذريته، وكذا لا يمكن تصور مجتمعا سعيداً لا يفكر في تربية الأجيال، إذا عدنا الى القرآن الكريم، نجد أن حديثه عن الذرية على لسان الأنبياء لا ينفك.
فما من نبي إلا وتحدث عن ذريته، فموسى، عليه السلام {أصلحْ لي ذُرِيَتِي}، وابراهيم: {ومِن ذُرِيتي}، وزكريا: {هبْ مِن ذريتي}، وكذا ام مريم {اُعيذها وذريَتَها من الشيطانِ الرجيم}.
نوح عليه السلام، بعد أن ركب السفينة قال: {ان ابني مِن اهْلِي}، كان له اهتمام بذريته وهو قوله ـ تعالى ـ: {يابني اركبْ مَعَنَا}.
لذلك دعاء المؤمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}، وهذا شرط اساسي للسعادة وذلك من خلال الأبعاد الثلاثة الآتية:
أولا: ضمان سعادة المربّي: الاهتمام بتربية جيل مؤمن، صالح، ورسالي، يضمن سعادة الأب (المربّي)، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: من اعظم السعادة الولد الصالح”.
ثانيا: ضمان سعادة المربَّى (الولد): لان الولد إذا نشأ على تربية خاطئة سيسير على تلك التربية الخاطئة وبالتالي يكون عبئا على نفسه، وعلى اسرته، وعلى مجتمعه.
ثالثا: ضمان سعادة المجتمع: ذلك تربية جيل صالح سعادة للمجتمع وللأمة، لذا على كل جيل التفكير بالجيل اللاحق، وإلا يكون مصادقا لتعبير القرآن الكريم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}. لا يوجد أمور جنتيكية تنتقل، بعض الأمور تنتقل بالوراثة، ولكن التربية الصالحة تستدعي اهتماما مبكراً.
- من المسؤول عن التربية؟
لابد من طرح السؤال التالي: من المسؤول عن التربية؟
من الاخطاء الكبيرة التي يتركبها المجتمع العراقي اليوم، ومجتمعات أخرى، هي الاهتمام بمسألة تربية الأبناء بشكل متأخر.
النظرية التربوية اليوم في العالم تقول: أن مسؤولة التربية محددة؛ فالمدرسة تربية، والمجتمع يربي، والجامعة تربي. وهذا من أكبر الأخطاء في الاعتماد على المؤسسات التعليمية، والدينية في مسألة تربية الأجيال.
لابد أن يتحمل الأب المسؤولية، لان خير الابن وشره للأب، يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام، في حق الولد على الوالد: “وأما حق ولدك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته”.
إذا أدى الأب دوره بشكل صحيح، فإن عينه ـ مستقبلا ـ تقر بولده، وإذا لم يقم الأب بدوره فإن وبال ولده ترجع إليه.
ومما يؤسف له أن بعض الأسر لا تهتم بتربية ابنائها، وتتخذ موقف اللامبالاة تحت عناوين كثيرة؛ كالثقة الزائدة، وما اشبه.
بعض العوائل مستعدة أن تهتم بصحة الولد، وتوفير الملابس الجيدة، وإدخاله الى معاهد لتعلم اللغة، وإرساله للخارج لاكمال الدراسة الجامعية، لكن حين يأتي الامر الى التربية الاخلاقية والدينية، نجد أن هذا الموضوع مهمل، ولا تتحمل العوائل أي مسؤولية.
من الخطأ أن يتصور البعض أن علاج مشكلة الشباب في العراق هو ارجاع الجندية، فهل تستطيع المؤسسة العسكرية اصلاح ما أفسدته المؤسسة التعليمية والتربوية، والسوشل ميديا؟ أين دور وزارتي الثقافة والتربية؟ وأين دور الإعلام؟
المؤسسة التربوية في العراق مسلوبةَ الإرادة، فجعلوا الاستاذ مقيداً تجاه الطالب، فلا يستطيع فعل شيء، وما نراه من انتشار الاخلاق الفاسدة، وبعض الافعال المشينة، إلا نتيجة لسلب الدور التربوي للاستاذ.
من المخجل ان تظهر فتاة في “عزاء المشق” في موكب رجال، وتلوح بالسيف بيدها، والأنكى من ذلك أن هذه الحادثة في محافظة شيعية عشائرية في جنوب العراق، وهذه حالة لم تكن موجودة في بلد كالعراق! فمن الذي يروّج لهذه الأفكار؟ ومن الذي يخرب الشباب بهذه الطريقة؟
لا يمكن أن يتخلى الأب عن مسؤوليته، ويفكر أن غيره سيقوم بهذا الدور، فكما تدفع العوائل أموالا، حتى يدخلون ابنهم الى الجامعة، ويجمعون الاموال لتزويجه، لماذا لا تجمع الاموال لتربيته.
- من أين نبدأ في التربية؟
سلوك الإنسان ناشئ من الثقافة التي يحملها وهو انعكاس حي لتلك الثقافة، فإذا كانت تلك الثقافة خاطئة؛ كأن تكون ثقافة اليأس، والتواكل، والاستهلاك، وما اشبه من الثقافات الخاطئة، ستكون النتيجة خاطئة، شاء الإنسان أم أبى.
ولذا على الآباء أن يعتنوا بقضية ثقافة ابنائهم؛ فيبحثون عن التحديات التي تواجههم، لا أن يعيش الاب منفصلا عن مشاكل ابنه وتحدياته، فحين يرى الأب انتشار المخدرات من المقاهي، فإن عليه أن يمنع ابنه من ارتياد تلك الأماكن، وازدياد الجرائم في العراق ـ كما صرح مسوؤلون في مكافحة الجرائم ـ يعود الى إدمان الكثير من الشباب على المخدرات، فحين لا يجد الشاب الاموال الكافية لشراء المخدرات يلجأ الى السرقات وعمليات الاحتيال.
مواجهة تحديات الشباب تكون عبر البناء الثقافي الصحيح، ففي مقابل ثقافة اليأس يجب اعطاء ثقافة الأمل، وتربية الشباب وبناءهم يكون عبر ثلاثة محاور:
- المحور الأمور: ثقافة المسؤولية
من الاشكالات الموجودة في شباب اليوم، ثقافة الاستهلاك؛ فنجد أن اكثر الشباب يعيش الحالة الاستهلاكية في المشتريات بأنواعها المختلفة، من الملابس، والأكل، وما شابه، وثقافة الاستهلاك سرت أيضا الى الاطفال، فلم يعد الطفل يقبل بالألعاب الموجودة لديه، وإنما يريد الجديد والمزيد.
وهنا لابد من الاشارة الى نقطة تربوية مهمة، جاء في كتاب “الأب الغني والأب الفقير لروبرت كيوساكى، يقول فيه: أن الأب الغني لا يعلم ابنه على الاستهلاك”. لذا على الأب ان يعلم ابنه ان يتحمل المسؤولية، ولابد أن يتعلم على العطاء بدلا من الأخذ، وأن يتعلم كيف يؤدي دوراً في المجتمع.
الشباب الذين فاتهم أن يتعلموا الثقافة الصحيحة من آبائهم، فبإمكانهم مراجعة انفسهم والبحث عن مكامن الخلل في شخصياتهم حتى يتمكنوا من تلافيه، وعليهم ان يتحملوا مسؤولية انفسهم لتغييرها الى الأفضل.
عن الإمام الباقر، عليه السلام قال: قال: “علي بن الحسين عليه السلام مرضت مرضا شديداً فقال لي أبي عليه السلام: ما تشتهي؟ فقلت: أشتهي أن أكون ممن لا أقترح على الله ربي ما يدبره لي، فقال لي: أحسنت ضاهيت إبراهيم الخليل صلوات الله عليه حيث قال جبرئيل عليه السلام: هل من حاجة؟ فقال: لا أقترح على ربي، بل حسبي الله ونعم الوكيل.
📌 مواجهة تحديات الشباب تكون عبر البناء الثقافي الصحيح، ففي مقابل ثقافة اليأس يجب اعطاء ثقافة الأمل
وبنظرة الى هذه الرواية نجد أن الإمام الحسين شجّع ابنه، ثم أصّل له الفكرة وانها من الجانب الديني والعقلي شيء جيد، وربطه بالقرآن الكريم بذكر نبي الله ابراهيم، واخيراً ربطه بالتاريخ. ولذا على الآباء ان يسلكوا هذا النهج، لانه يمنح الأبن سلاح قويّا في حياته، ذلك أن تأصيل المفاهيم يكسب الشاب الشخصية القوية.
فلابد من زراعة حب الله في قلوب الشباب، والاحترام ـ له جل وعلا ـ: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}، حتى يرى الله شيئا عظيما، ويتكل على الله في أموره، ويلجأ إليه.
- المحور الثاني: الارتباط بالقدوة الحقيقية
لابد من ربط الشباب ـ ذكورا وإناثا ـ برموزهم الحقيقيين، فالبنت التي رمزها السيدة زينب، عليها السلام، لا تهتز أمام الموظة، أما إذا كان رمزها من مشاهير التكتك واليويتيوب، فإن أي تغيير في شخصيتها لن يكون. وإذا كان الشاب رمزه ميسي فإن أقصى ما يمكنه تقليده هو أن يكون شعره كميسي.
لكن حينما يربط الشاب بالرموز الحقيقية، فإن شخصيته تتغير، فإذا كان العباس بن علي، رمزا للشاب فإن حياته ستكون العطاء، والإيثار، وكذا يجب ربط الشاب بإمام زمانه بأي طريقة كانت، وبيوتنا لابد أن يدام فيها ذكر الإمام الحجة، عجل الله فرجه، من قبيل دعاء العهد، ودعاء الندبة. وحينما يرتبط الشاب بإمام الزمان يجد أن له ملجأً يركن إليه إذا واجهته أي مشكلة.
- المحور الثالث: إفاضة العاطفة
النقص العاطفي عند الشباب يدفع الكثير لارتكاب الموبقات، ونقصان العاطفة في الاسرة يؤدي الى كوراث كبيرة، عن عبيد الله بن عبد الله عتبة قال: كنت عند الحسين بن علي، عليهما السلام، إذ دخل علي بن الحسين الأصغر، فدعاه الحسين عليه السلام، وضمه إليه ضحا (ضما)، وقبل ما بين عينيه، ثم قال، عليه السلام: “بأبي أنت ما أطيب ريحك، وأحسن خلقك”.
وجاء في رواية: من كان عنده صبي فليتصاب معه”، وهذه دلالة الى اعطاء الطفل المزيد من العاطفة الجياشة.
احترام الطفل نجده بوضوح في بيت الزهراء، عليها السلام، خصوصا في حادثة الكساء، فكانت السيدة الزهراء، تستقبل ابناءها، وتقل: “ٱلسَّلاَمُ يَا قُرَّةَ عَيْنِي وَثَمَرَةَ فُؤَادِي”، هذه العاطفة نقلها الإمام الحسين، عليه السلام، في يوم عاشوراء، فقد ودع أهله مرات عده، حتى أنه جاء الى ابنه علي وودعه وهو يشخب دما!
إن على العوائل المؤمنة الاهتمام بتربية ابناءها أكثر وأكثر، خصوصا في هذا الزمن الذي كثرت فيه عوامل الانحراف، ولذا لابد من الاهتمام الكبير بالطفل وتنشئته، وتنمية المواهب الخيرة فيه، ليكون ـ مستقبلا ـ قرّة عين لولديه.