يبدو أن تسمية السيدة زينب، عليها السلام، من قبل الله ـ تعالى ـ كشف عن عظمة هذه المولودة المباركة التي كانت مجمع فضائل أصحاب الكساء الخمسة، ومن انوارهم تكوّنت شخصيتها، فجسدت بموقفها خصائص النبوة والإمامة وخصائص امها الزهراء عليها السلام، سيدة نساء العالمين.
ولا ريب انها بنت علي، عليه السلام، تأتي في طليعة نساء الأمة الإسلامية بعد والدتها الزهراء كقدوة صالحة، ومَثَلٌ أعلى لكل قيم العزة والعظمة والشرف والطهارة، وللارتقاء الروحي وصولا إلى العصمة، تضمن البحث محاور عدة منها:
- اولا: رحلة النهوض مع اخيها الإمام الحسين
خرجت العقيلة الهاشمية زينب الكبرى مع اخيها الإمام الحسين، عليهما السلام، في رحلة النهوض موعودة بالعذاب والسبي والأسر، وموصاة بالصبر، فاختارت ان تعيش المأساة، وان تشهد الواقعة وتتجرع المصائب غصة، طلبا للارتقاء الروحي وصولا إلى العصمة التي تكتسب بالأعمال والفضائل والتضحيات في سبيل الحق، عصمة نالها العباس وزينب الكبرى، عليها السلام، بسلوك طريق الأنبياء والأوصياء، فكان تقديم الجواد لاخيها الحسين، سبط رسول الله، صلى الله عليه وآله، جزء من رسالة الحسين وثورته، وخطبتها في الكوفة والشام وهي تدك عروش الظالمين جزى من تلك الرسال المحمدية.
📌لقد أعطت السيدة زينب، عليها السلام، كل ما تملك في سبيل إحقاق الحق ورد الباطل، والدفاع عن قيم وثوابت الإسلام
بدأت مهمتها الرسالية بعد مصرع الإمام الحسين، عليه السلام، لأنها في حياته كانت تتهيأ للدور، فبعد استشهاده كانت اما وابا واختا تتصدى لكل من يحاول ان يمسهم، وقاومت الأعداء ونظراتهم الشامتة وكلماتهم وتصرفاتهم.
- ثانيا: حرة ابية لم تستسلم للارهاب والقتل
مارست السيدة زينب، عليها السلام، حرية الدعوة الاسلامية ونشر ثقافة الإصلاح ومحاربة الرذيلة دون ان تستكين او تستسلم للارهاب والقتل وكانت حرة ابية في مواقفها من الظلم والطغيان.
ظلَّ صوت الحرية الذي نطقت به السيدة زينب تردده الاجيال وهي تخاطب عبيد الله بن زياد اللعين في الكوفة ويزيد في الشام بقولها: “فكدكيدك واسعى سعيك ألا لعنة الله على الظالمين”.
كانت، عليها السلام، على قدر كبير من الحياء ليس له شبيه او نظير، وهذا ما يؤكده حديث يحيى المازني إذ يقول: “كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدة مديدة وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتا”. (النقدي، حياة السيدة زينب ع، ص٢٨).
كانت السيدة زينب، عليها السلام، تحاسب نفسها وتلومها كيف بقيت على قيد الحياة بعد هذه المصايب وهي تصف حالها لنساء اهل المدينة عندما طلبن منها الحديث عن مصائب كربلاء قائلة: “فلو شرحت لكل ماجرى علينا يوم عاشوراء صغاراً وكباراً ومن قتل من رجالنا وسلب نسائنا من سبي، او اسر ونهب للمتنني كيف بقيت في الحياة مع كل ذلك ولم امت من شدة المصاب وعظم الفاجعة”. (الجزائري، الخصائص الزينبية، ص١٩٥).
ولقد أعطت السيدة زينب، عليها السلام، كل ما تملك في سبيل احقاق الحق ورد الباطل، والدفاع عن قيم وثوابت الإسلام، فقدمت أولادها شهداء على طريق الدفاع عن الحق وأهل الحق، وتحملت الاذى، والاسر والجوع والعطش، والضرب والغربة في رحلة تثبيت قيم الحق والفضيلة ومواجهة الباطل والظلم والفساد.
كما لم تغفل السيدة زينب عن حقوق الآخرين وكانت لها الاولوية في حياتها كحق الإمامة الذي كانت تدين به لاخيها الإمام الحسين، عليه السلام، وحق الزوج وفي مضمار الحقوق الزوجية لها هذا الكلام: “أن جدي المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم، شرع لنا حقوقا لازواجنا وعلى الرجال حقوقا مفروضة علينا”. (عقيلة الطهر والكرم، ص٥٢).
- ثالثا: قمة في الصبر والرحمة والثبات على الحق
حفلت السيدة زينب منذ طفولتها بالمحن العظيمة التي استودعت منها الصبر والصمود، ففي طفولتها الباكر فقدت جدها رسول الله وامها الزهراء، ثم تواكبت المحن بشهادة ابيها علي، والغدر باخيها الحسن وشهادته مسموما.
ولقد تآزرت كل أنواع الشدائد والآلآلم عليها في واقعة كربلاء من القتل والسبي والترويع والجوع والعطش، وكانت قمة في الصبر والثبات على الحق ومواجهة الأعداء بصلابة وشموخ ليس لها في العالم نظير.
صبرت السيدة زينب وهي تواجه نيران الأعداء التي احرقت المخيم لتذود الأطفال عن النار، وفي اثناء مسيرة السبي تحملت ضرب السياط، وكعب الرماح من دون أن تتوسل بالاعداء او تستجدي لهم، بل كانت عليهم سيفاً وغضباً بفكرها المحمدي وبلاغتها العلوية وشموخها الحسيني.
حينما ارتحل ابن سعد بجيشه من كربلاء بعد معركة الطف ومعه نساء أصحاب الإمام الحسين، الذين استشهدوامعه، ومعهم الإمام السجاد وولده الباقر وكان له من العمر سنتان، طلبت النسوة من جيش ابن سعد ان يمروا بهن على جثث القتلى وحين نظرت النسوة إلى جسد الإمام الحسين، صحن وبكين ولطم الخدود فاشتد الأمر على الإمام السجاد وجاد بنفسه وقد انهكه المرض فقالت له السيدة زينب: “ما لي أراك تجود بنفسك يابقية جدك وابيك ان قبر ابيك سيكون علما لايدرس اثره ولا يمحي اثره على كرور الليالي والايام وليجتهدن أئمة الكفر واشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد اثره إلا علوا”.
لقد كانت السيدة زينب تذوب رقة ورحمة وعطفا وانسانية على جميع بني البشر وخصوصا مع ارحامها وموقفها من أخيها الامام الحسين، عليه السلام، عندما قدمت وليدها بيديه للقتال وهي تقول: “اخي لوكان الجهاد قد كتب على النساء كما كتب على الرجال لوددت ان افديك نفسي الف مرة وانقذك من القتل ولكن الأمر إلى الله”.
📌لنتخذ من نهضة ابي الاحرار نهجاً انسانياً متكاملاً، كما هو دائما؛ صلاة، وعفو وإصلاح، ومراعاة حرمات الطريق، وحجاب، وحلم، وأدب وسائر معاني الارتقاء بالنفس
وكانت اثناء المعركة تدخل إلى ساحة الحرب لعدة مرات لمهمات أخلاقية وواجبات انسانية حتى أن الإمام الحسين عندما عاد بصغيره عبد الله الرضيع مذبوحا ذهب ورأى الخيام ونادى اخته زينب بجثمان الرضيع لكي يخرج الإمام خشبة السهم من نحر الطفل”. (القزويني، زينب الكبرى من المهد إلى اللحد).
السيدة زينب بحق هي جبل الصبر، بل هي أم المصايب فعلى النساء ان ينظرن إلى فخر المخدرات ومعرفتها وشجاعتها، وترك الجهل، والتمدن الحديث واتباع الشيطان والشهوات.
لقد كرم الله تعالى النساء مرة أخرى فجعل بعد سيدة نساء العالمين السيدة فاطمة، زينب، عليهما السلام.
أرادت الحكمة الإلهية أن تكون إلى جانب رجل عظيم كالحسين امرأة عظيمة كزينب لتؤدي دورها الاعلامي لنشر الثورة الحسينية.
- رابعا: الدور الأكبر لمهمة زينب الرسالية تبليغ الدعوة الحسينية
كانت كلماتها في الكوفة ودمشق بمثابة الزيت الذي إضاء سراج ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، والمنار الهادي لكل الخطباء الذين اعتلوا منابر الدعوة لإحياء نهج الحسين، عليه السلام، والنور الذي شع على الدنيا بفضح سيرة بني أمية الدموية.
خاطبت السيدة زينب، اهل الكوفة قائلة: “ويلكم اتدرون أيَّ كبد لمحمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فريتم وأي عهد نكثتم، واي كريمة له ابرزتم، واي حرمة له هتكتم، واي دم له سفكتم”. (الاحتجاج للطبرسي، ٢، ص٣).
انبرى الإمام السجاد، عليه السلام، مخاطبا الذين اقترفوا الجريمة: “كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من انفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه، فبأي عين تنظرون إلى رسول، صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من امتي”.
أعظم ماجرى عليها من مصائب هي استشهاد اخيها الإمام الحسين، عليها السلام، مع ثلة من اهل البيت، عليهم السلام، وأصحابه وأبناءها أمام ناظرها.
وحملت أسيرة إلى الكوفة ولكن في الحقيقة تبقى عقيلة في هودج أسيرة وجرى ماجرى عليها من هموم العيال والأطفال وخدمتها لعيال اخيها الإمام الحسين، عليه السلام، فهي بحق جبل الصبر بل هي أم المصائب.
كانت، عليها السلام، كبيرة البيت العلوي وكان كلامها غاية في الفصاحة والبيان، مستعينةً بآيات من القرآن الكريم، فضجَّ الناس بالبكاء والعويل، وعند دخول النساء إلى مجلس ابن زياد اللعين، صار يشمت بأهل البيت، إذ قال اللعين للسيدة زينب: كيف رأيتِ فعل الله بكم.
قالت، عليه السلام: “مارأيت الا جميلا..هولاي قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم”، إذ كان كلامها معبّراً عن الرضا والتسليم المطلق لله ـ عز وجل ـ ففضحت بموقفها بالكوفة القتلة، وتعريف الناس بمنزلة الشهداء في كربلاء.
وبعد ان ساروا ووصلوا الي الشام بأمر يزيد اللعين ورووس الشهداء أمامها على الرماح طوال الطريق وراس الإمام الحسين، عليه السلام، يتلو القرآن، وهم مقيدون بالحبال، فعندما دخلوا على ابن آكلة الكبود، امر برأس الإمام الحسين، عليه السلام، ونكثه بالقضيب .
قامت وخطبت خطبتها الشهيرة معلنة نهاية الحكم والسلطة الأموية حيث ردت عليه بكل شجاعة مستصغرة قدره.
ففي خطبتها بينت للناس الغافلين الحقائق، وفضحت أفعال بني أمية وجرائمهم حتى كان اهل الشام يعتقدون ان الحسين، عليه السلام، من الخارجين عن الدين.
كان دورها الاعلامي فضح خسة ال امية وبغضهم لدين محمد وآل محمد، فبرز دور العقيلة زينب ليكشف عن حقيقة صوت المرأة الحيدرية الحسينية، بفضح عروش الكفر وأبناء الطلقاء فكانت، عليها السلام، متممة للنهج الحسينى النبوي.
اما المؤمنات بنهضة سيد الشهداء، عليه السلام، فيكفي ان نذكر زينب، وستصل الرسالة على أكمل وجه للعارفين بالحسين وأهل بيته.
لنتخذ من نهضة ابي الاحرار نهجاً انسانياً متكاملاً، كما هو دائما؛ صلاة، وعفو وإصلاح، ومراعاة حرمات الطريق، وحجاب، وحلم، وأدب وسائر معاني الارتقاء بالنفس، اكراما للتضحيات الجسام لسيد الشهداء، عليه السلام، ليبقى الحسين نهضة مستمرة وليس ذكرى نهضة.