يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ *وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}.
خلق الانسان وخلق معه جملة من المستشعرات، وأعطاه اللب لكي يستقبل ما تعطيه المستشعرات من اشعارات، ويحولها الى بيانات يستفيد منها في حياته، ومن جملة تلك المستشعرات المهمة، هو الألم.
نحن ـ عادة ـ لا نحب الألم، ونساءل دائما: لماذا خلق الله الألم؟ ولما يتألم الناس؟ ولماذا لا يولد الطفل إلا بتجرع أمه للآلآم؟ حتى ان موتنا وخروجنا من هذه الدنيا، لا يكون إلا بالألم، فالروح تنتزع انتزاعا من البدن.
عادة يفكر الانسان؛ لو كانت الحياة من دون ألم ستكون سعيدة، وجميلة، فالإنسان حين يجوع ويعطش يتألم، وحين يبذل الجهد ويفارق الحبيب يتألم، فالألم موجود بشكل مستمر.
📌مبدأ رحمانية الألم كما يصدق في الفرد، يصدق في المجتمعات، فكما أن الانسان إذا ارتكب خطأً يتألم، كذلك المجتمع، والأمة إذا اصابها خلل تتألم
الحقيقة؛ أن الألم من رحمة الله بهذا الخلق، ولو أنك طرحت على الطبيب السؤال التالي: أريد وصفة توقف جميع الآلآم في جسمي؟
بالتأكيد سيكون جواب الطبيب: أن مثل هكذا إنسان ـ لا يريد أي ألم ـ لا يمكنه أن يعيش إلا تحت رقابة شديد، ومع أول وعكة يمكن أن يموت، لانه لا يمكنه أن يتجاوب ويتفاعل مع ذلك المستشعِر الذي جعله الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالنسبة إليه.
وكذلك الألم بالنسبة الى الدين، والى الإنسان نفسه، والى دنياه، فالألم من جهة إنذار، ومن جهة أخرة يعطي الألم قيمة للشيء، فحينما نقارن بين اهتمام الأب للمولود، وبين اهتمام الأم، فأيهما يعتني أكثر؟ وأيهما مستعد أن يضحي من أجل المولود؟ بالتأكيد الأم مستعدة للتضحية، لأن الألم تجرعت آلام الولادة التي لم يحس بها الأب.
الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون ألم ومن دون جهد، تكون قيمته قليلة، بينما إذا حصل على شيء بألم، وتعب، تصبح له قيمة أخرى، فمثلا الطفل إذا اشتريتَ له لعبة واهديتها له، في المقابل دعه يصنع لعبة أخرى بنفسه، ويتعب، ويبذل جهدا عليها، سترى بعد مدة من الزمن ان تلك التي اشتريتها له تلفت ولم يعد يبقى منها شيئا، بينما تلك التي صنعها بيده وتعب من أجلها، فإنه يحافظ عليها، ويعتز بها، وربما لسنين تبقى لديه دون أن يفرط فيها.
- الألم يعطينا قيمتين:
الاولى: الحفاظ على الاشياء.
الثانية: الإنذار.
والانذار يكون تحذيرا حتى لا يقع الانسان في شيء أكبر، فمثلا الغدة الدرقية تسمى بالغدد الصماء، ذلك لانها تعمل كثيرا أو قليل، وإذا وجد الألم فإنه لا يظهر، ولذا قد ترى إنسان اصابته السُمنة حتى مات، فهو لم يلتف الى ذلك الألم.
الألم سمة الحياة، فاليد إذا اصابها شيء فإنها تتألم، حين يقص الإنسان شعره، أو أظفاره لا يحس بالألم، لانها من الاجزاء التي لا تحلها الحياة، لكن لو أخذت شعرة من مكان آخر من جسم الإنسان، فإن يتألم بمقدار ما لها من حياة.
وهذا المبدأ ـ مبدأ رحمانية الألم ـ كما يصدق في الفرد، يصدق في المجتمعات، فكما أن الانسان إذا ارتكب خطأً يتألم، كذلك المجتمع، والأمة إذا اصابها خلل تتألم.
وهناك روايات كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، فالقضاء حين يجور، تمنع السماء قطرها، وفي هذه الحالة لابد للناس ان يعودوا إليه ـ تعالى ـ، وهذه من رحمة الله بالناس.
هذه السنة في العراق سنة الجفاف بسبب عدم وجود الأمطار، لكن الناس لم تلفت الى ذلك، وكان المؤمل ان يضجوا الى الله، ويخرجوا الى صلاة الاستسقاء، هكذا كان الانبياء، الائمة، صلوات الله عليهم.
كذلك، إذا مُنعت الزكاة والحقوق فإن الغلاء يقع لا محالة، وهنا لابد للناس أن يرجعوا الى الله، وهذه هي رحمة الله.
لو كان هناك بناء مشيد لكنه اساسه فيه خلل، فقبل أن ينهار البناء تظهر فيه تصدعات، وشقوق، وآثار، وهذه كلها عبارة عن تنبيه بانيهار البناء.
ولهذا فإن رحمة الله ـ تعالى ـ تكون حاضرة قبل أن يأخذ الناس بالعذاب، فيأتيهم التنبيه تلو الآخر، لكن الناس يتنقسمون تجاه هذا التنبيه الى قسمين:
القسم الأول: منهم من يتغافل، ويتجاهل، وهؤلاء مثل قوم فرعون، فالله ـ تعالى ـ أرسل لهم تسع آيات بينات، فمرة أرسل لهم القمل، وآخرى الضفادع، وثالثة الدم، لكنهم حين لم يتفاعلوا معها، ولم يأخذوا الإنذار كما يجب، أخذهم الله ونبذهم في اليم.
القسم الثاني: من ينتبهون، وهم الذين يبحثون عن سبب الألم، فإذا كانت هناك مشكلة في المجتمع، كأن يكون الوضع السياسي على حافة الانهيار يستاءل: أين الخلل؟ من أين بدأت المشكلة؟
بعض الاجيال حينما تأتي تلو الاجيال السابقة تنسى تلك الاسباب التي أدت الى وجود هذه الآلآم، والمشاكل، هذه الاجيال تحتاج الى تذكير. ربنا في كتابه الكريم يتحدت عن بني اسرائيل، وكيف ان تجرعوا الآلآم، فقد شردوا وعذّبوا، وفعل بهم الفراعنة ما فعلوا، لكنهم مع كل ذلك لم يعودوا الى الله، وذهبوا مع فرعون، واتكبوا الظلم والفساد في الأرض.
إحياء المجالس الحسينية ضرورة
هذه المجالس التي نعقدها اليوم وملايين من الناس حول العالم، لكي نذكر انفسنا وغيرنا بذلك الألم الذي ألم بهذه الامة، بتلك المصيبة الكبيرة التي قام بها الأولون، حينما زرزحوها عن موطن الرسالة، ومهبط الملائكة، حينما استبدلوا الغدير بالسقيفة، قالت فاطمة الزهراء، عليها السلام: ف”َنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتَجُ ثُمَّ احْتَلَبُوا طِلَاعَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاًوَ زُعَافاً مُمْقِراً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَ يَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَ الْأَوَّلُونَ”.
الخلل الذي حصل في الغدير سبّب آلام كبيرة لهذه الامة، منها ألم عاشوراء وكربلاء، بحجم أن يقتل ريحانة رسول الله، صلى الله عليه وآله.
📌إن علينا ان نبكي على الإمام الحسين، عليه السلام، لأن في ذلك استذكار لمنهج السماء، لان الابتعاد عن هذا المنهج القويم إنما هو ابتعاد عن الحسين، عليه السلام
كان الإمام الحسين، عليه السلام، يخاطب الجيش الأموي: ألست ابن بنت نبيكم؟ لما تستحلون دمي ابقتيل لكم قتلت؟
ولذا علينا أن نذكر أنفسنا ونبكي على تلك المصائب، لان تلك المنطلقات لا زالت موجودة، ولا زالت الأسباب نفسها، فالخطأ الكبير الذي حدث بعد موت رسول الله، صلى الله عليه وآله، لازال موجودا.
لا يزال الناس مبتعدين عن مهنج السماء، وهذا هو الذي يسبب لهم المشاكل، فإذا رحل وباء كورونا، تأتي حرب اوكرانا، وهكذا تتداعى المشاكل، الواحدة تلو الاخرى.
ولذا فهناك عدم فهم كافٍ القيادة الاسلامية إذا جاء الإمام المهدي المنتظر، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه الشريف، لان الناس يعيشون الظلمات، ولهذا لايوجد اي استشعار لهذه المسألة المهمة.
الثقافة التي نتجرعها اليوم اشبه بالماء الآسن، بعيدا عن قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}.
لابد أن تذكر المصائب، لان هذا الدين الذي ندين به، وهذه الصلاة التي نصليها، وذلك الحج الذي يذهب الناس إليه كل عام، لم يصلنا بسهولة، إنما كان {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}. تضحيات كبيرة بحجم سيد شباب أهل الجنة حتى وصلنا اليه هذا الدين متكاملا، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
الله ـ تعالى ـ من اول الخلق يذكر بقضية كربلاء، فأبينا آدم حينما ذُكر له الخمسة اصحاب الكساء، لكن حين ذكر الاسم الخامس (الحسين)، رجف قلبي.
ابراهيم عليه السلام يبكي في هذه الارض، وكذا نبي الله موسى حينما مشى من كربلاء، وسقط فيها قال: ألذنب. قال: لا.
كل الانبياء بكوا على الإمام الحسين، عليه السلام، بما فيهم النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فحين ولد الإمام الحسين، نزل جبريل، وأخبر النبي ان الامة ستقتل هذا المولود.
إن علينا ان نبكي على الإمام الحسين، عليه السلام، لأن في ذلك استذكار لمنهج السماء، لان الابتعاد عن هذا المنهج القويم إنما هو ابتعاد عن الحسين، عليه السلام، واحياؤنا لمصاب الإمام الحسين، إنما هو تذكر للناس اين مكمن الخلل.
يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، راية الإمام الحسين، عليه السلام، توحدنا، فلا نتشتت ونتفرق وكلنا ينتمي لهذه الراية.
بيانات المراجع ـ وكأنهم تنبأوا بذلك ـ صدرت قبل شهر محرم الحرام، منها بيان سماحة المرجع المدرسي (دام ظله)، وتبعها بيان المرجعية في النجف الاشرف، ثم بقية المراجع الكرام، كل هذه البيانات تؤكد على الوحدة.
العراق أقوى، وأعتى من ان يسقط بسبب أي فتنة تحدث، والسلاح الموجود اليوم، سواء كان بيد تلك الجهة، او الجهة الأخرى، وبحكمة العلماء وادارتهم لن يوجه السلاح الى صدور بعضنا البعض.
أما ذلك الذي يحيك المؤامرة على العراق عليه أن يرى أنه في فتنة، ومؤامرة تُحاك على هذا البلد، انتهت لصالح الشيعة، وأي قضية ستجعل الشيعة أكثر وحدةً، وتماسكا بقيادتهم الحكيمة وبمراجعهم، ولذا لا داعي لا خوف على هذا البلد، وسترجع الفتنة وتحرق من يحيكها ويشعلها، ولقد رأينا كيف أن أبناء المناطق الذي آووا الارهابيين الدواعش هم أكثر من تضرر.
نحن نملك الإمام الحسين، عليه السلام، ولقد رأينا مئات الآلاف ليلة تبديل الراية، وفي يوم العاشر سيتوافد الملايين الى كربلاء لاحياء الشعائر التي منها ركضة طويريج، وبعدها تأتي الملايين في زيارة الأربعين، كل هذه الأمة التي يحاول الاعداء تفريقها وتنادي بصوت واحد: “لبيك يا حسين”. لن يستطيعوا الى ذلك سبيلا.
هذا البلد تحت رعاية صاحب العصر والزمان، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، بالاضافة الى الدماء التي سفتك تمثل ضمانا وتأمينا لهذا البلد.
إن إحياء المجالس إنما هو تأسيا برسول الله، والائمة الطاهرين، صلوات الله عليهم، فالائمة ما إن يدخل شهر محرم، يقول الإمام الرضا، عليه السلام: “فعلى مثل الحسين فليبكي الباكون”.