ثقافة رسالية

أطول يوم في التاريخ

هل تختلف ساعات الليل والنهار من شخص لآخر؟ من يوم لآخر؟ من سنة لأخرى؟

هل الساعة الواحدة في هذا اليوم تساوي نفس المدّة الزمنية لأيّ يوم آخر؟

  • ما هو الزمان؟

أساساً في المنطق القرآني وفي أحاديث أهل البيت عليهم السلام نجد أنَّ اليوم والساعة وغيرها من الفاظ لا تطلق على المعنى المتبادر عندنا اليوم، بل في بعض الروايات حديث عن امتداد الزمن ضمن اليوم الواحد نفسه.

وهذا ما جعل الفلاسفة قديماً وحديثاً يتوقفون في معنى الزمن، فمنهم من قال بأنَّ الزمن وهمٌ، ومنهم من قال بأنَّ الزمن مخلوقٌ ملازم، ومنهم من قال بأنَّ الزمن بُعدٌ من الأبعاد، حتى قال بعضهم أنَّ الزمن مصطلحٌ هو الأعصى على التعريف.

ولا يعنينا الدخول في هذه المتاهات، فالمستفاد من الأخبار هو تفاوت الأزمنة، فكانت نومة أصحاب الكهف بالنسبة اليهم يوماً أو بعض يوم، كما نقل القرآن الكريم قولهم: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، لكنَّ هذا الزمن مرَّ على قومهم ثلاثمائة سنة وتسعاً.

وقد يكون اليوم الواحد وعاء لفترة طويلة من الزمن كما نقرأ في الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق في كتابه القيّم كمال الدين وتمام النعمة، عن النبي صلى الله عليه وآله أنَّه قال: “إِنَّ خُلَفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَحُجَجَ اللَّهِ عَلَى الْخَلْقِ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ أَوَّلُهُمْ أَخِي وَآخِرُهُمْ وَلَدِي”، قيل يا رسول الله ومن أخوك؟ قال: “عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ”، قيل فمن وَلَدُكَ؟ قال: “الْمَهْدِيُّ الَّذِي يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَ ظُلْماً وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ وَلَدِيَ الْمَهْدِيُّ فَيَنْزِلَ رُوحُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُصَلِّيَ خَلْفَهُ وَتُشْرِقَ الْأَرْضُ بِنُورِهِ وَ يَبْلُغَ سُلْطَانُهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ”.

هذا الحديث متواتر عند الفريقين وإن اختلفت نسخه، لكن الواضح فيه أنَّ اليوم الواحد يجعله الله طويلاً، وعليه فلا يمكن قياس الزمن بحسب الساعات، بل يجب أن يقاس بما يحمله من أثر، فربما نجد أن الحدث الواحد في قطعة زمنية بسيطة يكون له أثر ممتد لفترة طويلة.

ونحن أحياناً نشعر بذلك أيضاً، فيشعر أحدنا أنَّ يوماً مر عليه طويلاً ويوم آخر مرَّ عليه سريع جداً.

  • أطول يوم في التاريخ

هذا ما يجعل من يوم عاشوراء، أطول يوم في التاريخ، فما حدث في هذا اليوم لم ينته، بل كل شيء قد بدأ من ذلك الحين، فقد وقعت قطراتٌ من دم مهجة الحسين عليه السلام على الأرض وهي لا تزال تغلي ولن تهدأ حتى يقوم ولي الأمر ليأخذ بثأره.

فذلك اليوم الذي نادى فيه الإمام الحسين هل من ناصر ينصرنا لازال مستمراً ونداء الحسين لازال مدوياً إلى يومنا هذا، بل إلى قيام ولي الله، ولذلك حين يظهر ولي الله روحي له الفداء، ينادي باسم الحسين عليه السلام، فكأنّه يقول لبيك جدي، “إن كان لم يجبك بدني عند إستغاثتك ولساني عند إستنصارك فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري” وهذا ما نقوله نحن أيضا في زيارته عليه السلام.

فلو كشف لنا الغطاء لسمعنا واعية الحسين، ولرأينا عجيج الملائكة وضجيج الملكوت.

نعم؛ يوم الحسين لم ينقض بل هو ممتد ما بقي الليل والنهار، لأنَّ الحسين قام لأجل مشروع وقضية، والقضية لاتزال حيّة، فمن الخطأ جداً تصوّر بعضهم العلاقة مع قضية عاشوراء، على أنّها وقتية، بل للحسين حضور دائم عند المؤمنين.

نقرأ في زيارته عليه السلام في رجب: “أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ تَمُتْ بَلْ بِرَجَاءِ حَيَاتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شِيعَتِكَ وَ بِضِيَاءِ نُورِكَ اهْتَدَى الطَّالِبُونَ إِلَيْكَ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ نُورُ اللَّهِ الَّذِي لَمْ يُطْفَ وَلَا يُطْفَأُ أَبَداً وَأَنَّكَ وَجْهُ الَّذِي لَمْ يَهْلِكْ وَلَا يُهْلَكُ أَبَداً”.

إنَّ حياة الإمام الحسين عليه السلام بحياة ما أحياه، فهو الذي أقام الصلاة فما تقام صلاة في الوجود كان الحسين حياتها وهو حيّ فيها.

فدماء الإمام الحسين عليه السلام سكنت في الخلد: “أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ”،لتبقي الحرارة في قلوب المؤمنين تجاه هذه القضية الربّانية، فالحسين الذي قد زُيِّن ساق العرش بإسمه وأنّه مصباح هداية وسفينة نجاة؛ له ولقضيته حضور كوني، لأنَّ الإمام الحسين هو وتر الله، فلذلك تبكيه الخلائق حتى الحيتان في البحر، وإنَّ جهنّم لتزفر غضباً وغيضاً على قتلة أبي عبد الله.

  • الحسين في يومياتنا

من يراجع الروايات يجد كيف أنَّ الأئمة عليهم السلام، ربطوا بين سلوكيات المؤمن اليومية وبين الإمام الحسين عليه السلام.

ألف: فنحن نصلي في كل يوم خمس مرّات نسجد فيها على تربته الشريفة، ففي حديث معاوية بن عمار أنّه كان للإمام الصادق عليه السلام خريطة من ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله عليه السلام، فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه ثمَّ قال: “السُّجُودُ عَلَى تُرْبَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يغرق [يَخْرِقُ‏] الْحُجُبَ السَّبْعَ”.

باء: كذلك التسبيح بطين قبر الحسين ففي الحديث: “مَنْ كَانَ مَعَهُ سُبْحَةٌ مِنْ طِينِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ عليه السلام كُتِبَ مُسَبِّحاً وَ إِنْ لَمْ يُسَبِّحْ بِهَا”.

جيم: ومن ذلك زيارة الإمام في المناسبات المختلفة، بل في كل يوم، فالإمام الصادق عليه السلام يقول لحنان بن سدير: “مَا أَجْفَاكُمْ لِسَيِّدِكُمْ”، ويقول لسدير: “يَا سَدِيرُ وَ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَزُورَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ عليه السلام، فِي كُلِّ جُمُعَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً”؟

دال: يقول داوود الرقي كان الإمام الصادق عليه السلام، إذا شرب الماء تغرورق عيناه بالدموع ويقول: “وَمَا مِنْ عَبْدٍ شَرِبَ الْمَاءَ فَذَكَرَ الْحُسَيْنَ عليه السلام، وَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَحَطَّ عَنْهُ مِائَةَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَرَفَعَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دَرَجَةٍ وَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ مِائَةَ أَلْفِ نَسَمَةٍ وَحَشَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلِجَ الْفُؤَادِ”.

كل ذلك ليكون للإمام الحسين عليه السلام، حضور دائم في يوميات الإنسان ولا تمرّ عليه مناسبة إلّا ويذكر فيها الإمام الحسين عليه السلام.

  • مجالس الحسين وأثرها الكبير

وبذلك نفهم أثر وأهمية إقامة هذه المجالس والشعائر وسبب تحريض أهل البيت عليهم السلام لإقامتها، المجالس التي يقول فيها الإمام الرضا عليه السلام: “من جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت فيه القلوب”.

فهناك فرق كبير بين من يحضر في مجالس الإمام الحسين عليه السلام، ومن لا يحضر هذه المجالس، فصبغته الفكرية والثقافية تختلف، فهو ينظر إلى الحياة من واقع القضية الحسينية، أو قل هو ينظر بنور مصباح الحسين عليه السلام.

الذي يحيي مجالس عاشوراء لا يرى الإمام الحسين عليه السلام، شخصاً في التاريخ، بل يراه حاضراً، فإذا لم يكن هو حاضر فقضيته حاضرة، وولده المهدي المنتقم له حاضر، وهذا ما يجعل التفاعل العاطفي عنده رشيد لأنّه ينتهي إلى التفاعل الفكري، والثقافي، بل والسلوكي.

فنحن نتفاعل مع كربلاء وعاشوراء كيوم مستمر، فالآن رسالة الإمام إلى العلماء ورسالته إلى أهل الكوفة والبصرة حاضرة، ونحن نقرأ هذه الرسالة ونجد أنفسنا مخاطَبين بخطاب الإمام الحسين وهو ينادينا: “ألا من كان باذلاً فِينَا مهجتَه، وموطِّناً على لِقَاء الله نفسه، فلْيَرْحَل مَعَنا، فإنِّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله”، فهل سنركب في رحل الإمام الحسين عليه السلام؟ أم سنعتذر من الإمام؟

هل سنختار الحسين ونترك كل شيء أم سنقدِّم المعاذير، فكان الرجل يتعذر بضيعته، وماله واليوم أنا أعتذر بمهنتي وجامعتي؟

علينا أن نفكر في هذا الأمر مليّاً ونحن نحضر مجالس ذكر أبي عبد الله الحسين، لكي نكون ممن يسعد بالحسين عليه السلام.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا