شهر رمضان كنظام تشريعي دقيق، كتب الله -تعالى- على المؤمنين صيامه، يمكن أن نستلهم منه مجموعة من القواعد الهامّة لتحقيق الإنجازات في الحياة، لأن شهر رمضان جاء ليحقق غاية عظيمة عبر برنامج متكامل يستغرق شهراً كاملاً، وعبر مجموعة من الإلتزامات التي يؤديها الإنسان ليصل إلى ذلك الهدف، ويمكننا من خلال التدبّر في الآيات القرآنية التي تحدّثت عن شهر رمضان وعن الصيام، أن نكتشف مجموعة مهمّة من أسرار الإنجاز.
إن الهدف من الصيام في شهر رمضان هو الوصول إلى صفة التقوى، وأن يكون الإنسان من المتقين، حيث قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فجميع تفاصيل البرنامج الرمضاني بتشريعاته وآدابه المعنوية إنما تسير في اتجاه دعم هذا الهدف، وهي أعظم غاية يصل إليها الإنسان، لأنها مفتاح الحياة الدنيا ومفتاح الحياة الأخرى، وعندما يكتسبها الإنسان فإنه سينال الرضا الإلهي بحيث يكون من المقرّبين وفي جنّات النعيم، بالإضافة إلى أن شخصيته ستكون شخصية فاعلة تتحدّى الصعوبات وتشق طريقها نحو الإنجاز.
وهنالك قواعد لتحقيق الإنجاز في هذا الشهر الفضيل، نسلط الضوء على أحدها؛ وهو، الإيمان بالهدف.
-
الإيمان بآثار الصوم
لن يستطيع الإنسان أن يؤدي عملاً متقناً وناجحاً من دون أن يؤمن به ويعتقد به، نستفيد هذه الحقيقة من التكليف الذي يوجهه رب العالمين للإنسان، فالصوم مثلاً تكليف من الله -عز وجل- للذين آمنوا به، فالنداء يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، ثم يقول لهم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، فالإنسان غير المؤمن لايمكن أن يلتزم بتكليف واجب لا يعتقد به، فكيف تقول له: كن متقياً وهو لا يؤمن بالتقوى أصلاً؟!
الرسول الأكرم، استطاع أن يحقق أكبر انجاز على وجه الأرض، حيث أنه أحدث أكبر تغيير في العالم عن طريق إيمانه، فتلك الجهود التي بذلها، صلى الله عليه وآله، ما كانت لتكون لولا التزامه وإيمانه العميق بما يريد أن يفعل، لذلك عندما حاولوا إغراءه ومساومته على أن يترك ما يصبو إليه من أهداف لم يتمكّنوا.
ولكن؛ لماذا عليّ أن أكون مؤمناً بهدفي؟
من أهم الأساب التي تدعو إلى الإيمان بالهدف، هو أن هذا الإيمان سيخلق في النفس حالة من التمسّك بذلك الهدف، وبالتالي فإنه لن يتأثر بأية صعوبات قد تواجهه في سبيل الحصول على هدفه، وهذا لأن تلك القناعة وذلك الإيمان بالهدف قد أعطاه حساً مسؤولاً تجاه ذلك الهدف، وهنالك فرقاً كبير بين الأعمال التي نؤديها، بين تلك الأعمال التي تتضمن مسؤولية، وتلك التي لا تتضمن أية مسؤولية، فكل التصرفات والسلوكيات ستختلف، ومنها قوة التمسك والإصرار على ذلك الهدف.
ولنا أن نمثل لذلك بمثال واضح، ففي العلاقة بين الرجل والمرأة، ستختلف عند الرجل الذي ينظر للعلاقة المسؤولة بين الرجل والمرأة في إطار الزواج ومسؤولية تكوين أسرة، وبين رجل ينظر للعلاقة بين الرجل والمرأة على أنها رغبة يريد أن يفرغها، أو تسلية عابرة، فالأول سيجهد نفسه في أن تكون تلك العلاقة شرعية، وسيسعى إلى الحفاظ على العائلة، أما الثاني فلن يهمه الأمر كثيراً، فإننا نقرأ الكثير من أخبار نجوم السينما مثلاً في أن إحداهن، قررت أن لا تتزوج من صديقها ووالد طفلها، بكل بساطة، وكذا الرجل، يقرر أن يكوّن علاقة أخرى وجدها أفضل من الأولى، ثم ينتقل إلى الثالثة والرابعة وهكذا. فلا يهمه أن يكوّن عائلة حتى لو نتج عن تلك العلاقات المحرّمة أولاداً.
فالإيمان بالهدف أمر ضروري من أجل ضمان التمسّك بالهدف إلى نهاية المطاف، من أجل تحقيقه، ولنا خير مثال في قصة عبد الله بن حذافة الذي حمل رسالة من النبي إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام.
فمن الأعمال المهمة التي قام بها، هو حمله رسالة النبي، صلى الله عليه وآله، إلى كسرى يدعوه فيها إلى الإسلام، وعندما دخل على كسرى في قصره أخذ يتخطّى فوق السجّاد الثمين وسيفه متدلٍ وهو لا يبالي بفخامة المكان ولا بفخامة القصر. ثم جاء وجلس على مقعد من مقاعد الديوان الملكي، غير مكترث بالملك وحاشيته، فسأله الحرس ماذا تريد؟
فقال: إني حامل رسالة من رسول الله، صلى الله عليه وآله، إلى كسرى، فقالوا له: هذا هو كسرى، فاعطه الرسالة، فامتنع عبد الله، وقال: كسرى هو صاحب الحاجة، وعليه أن يأتي إليّ ليأخذ الرسالة! فاضطر كسرى أن يمتثل لأمر عبد الله ويأتي إليه ليأخذ منه الرسالة.
بعدها اجتمع كسرى مع قوّاد جيشه وتناقش معهم في أمر الرسالة، وكان رأيهم أن لا يردّ على النبي، صلى الله وعليه وآله، إلا بما هو قاسٍ، فقال كسرى لهم: لو كان مع محمد عشرة من أمثال هذا الرسول الذي بعثه إليّ فقد انهزمنا في المعركة.
كان عبد الله بن حذافة قائداً للجيش الذي أرسله لمحاربة الروم فوقع في الأسر، ولما ساقوه أسيراً إلى ملك الروم عرض عليه نصف ملكه ليرتدّ عن الإسلام، فرفض بن حذافة وظلّ على إسلامه على الرغم ممّا لاقاه من تعذيب، فاضطر ملك الروم إلى الإفراج عنه؛ هو ومائة أسير وأعجب بإيمانه ومنحه مبلغاً كبيراً من المال وعدداً من الجواري».
-
كيف أصل للإيمان بالعمل والهدف؟
تلك هي أهمية الإيمان بالهدف، ولكن يأتي سؤال مهم، وهو كيفية الوصول إلى هذا الإيمان الذي يحقق لنا التمسّك والوثوق بالهدف من أجل تحقيقه وانجازه؟
ولمعرفة ذلك لابد أن أنظر لجهتين في هذا الموضوع؛ وهما: النظر لـ «الهدف» من جهة، والنظر لـ «القدرات» من جهة ثانية.
الجهة الأولى: الإيمان بالهدف نفسه
ينبغي أن أحقق الإيمان بالهدف الذي اتجه لتحقيقه، ولا أسعى لهدف يكون غيري هو صاحب القناعة فيه، فليس لأن أبي قال لي، أو الناس يرون كذا… هو الأفضل، بل لأن هناك أسباباً مقنعة دفعتني لتبنيه، وعليه فلابد من البحث عن الأسباب التي تجعلك مؤمناً ومقتنعاً بذلك الهدف، فتطرح على نفسك هذا السؤال: ماهي الأسباب التي تجعلني أحقق هذا الهدف؟ مالعائد الذي سيعود عليّ من ذلك؟
على الإنسان أن يتعامل مع أهدافه كقناعات، لا كأماني قد تتبخّر في أي وقت، لأن الأماني منبعها المشاعر المجرّدة، والرغبات العابرة وتتأثر بالأجواء المحيطة دون أن تؤسس على أساس متين، ولكن القناعة هي التي تؤسس على أسس قوية، منبعها الحاجة والقيمة والفائدة، ثم بعد ذلك تخلق الرغبة من أجل تحقيقها.
الجهة الثانية: الإيمان بالقدرات الذاتية
ينبغي أن ينظر الإنسان لنفسه كمخلوق لله -تعالى- وهو الذي أعطاه قدرات يمكنه أن يحقق بها الكثير، فإن الذين حققوا الإنجازات الكثيرة هم خلق الله أيضاً، ولم تكن لديهم أشياء أخرى اضافية، كل ما في الأمر أنهم اتبعوا خطوات الإنجاز، وعرفوا بعض أسراره، فتمكّنوا من تحقيق أهدافهم، ولهذا فإنك تملك تلك القدرات كغيرك، ويمكنك أن تفعل الكثير.
وهنا مسألة مهمة في مجال الثقة بالقدرات؛ فإن النظر لتلك القدرات على أنها نعم من الله -تعالى- على الإنسان، وهي من عطاءاته -تعالى- على عبده، وليست قدراته منفصلة عن الله، لكي لا يتكبّر الإنسان ولا يتجبّر، ولكي لا يصيبه الغرور الذي يؤدي به إلى مزالق الطريق، هذه المسألة قد جهلتها الكثير من البرامج التي أرادت أن تعزز في الإنسان قدراته، وتجعله واثقاً بها، فتعمل على تضخيم الذات وكأنها منبع كل شيء، فيُباع الوهم، ثم يستطدم بالواقع بعد ذلك.
والفارق هو أن الأفكار المستوحاة من القرآن الكريم والسنة المطهرة للنبي وأهل بيته، تعطي للإنسان الثقة المستمدة من الله -تعالى-، وهو بحاجة للإستعانة به والتوكل عليه بشكل دائم، لكي لا يطغى كما جاء في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}، (سورة العلق، الآية6-7) ولذلك فإن الله -تعالى- يعطي المؤمنين الثقة بسبب إيمانهم، ويقول: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وقال الإمام علي، عليه السلام: «إياك والثقة بنفسك فإن ذلك أكبر مصائد الشيطان». وعنه عليه السلام: «من وثق بالله صان يقينه».
فالثقة بالقدرات التي أودعها الله -تعالى- في الإنسان، هي مقدمة للإنطلاق، لأنه سيكون مؤمناً ومقتنعاً بأنه يستطيع أن يقدّم ويحققاً منجزاً.
والقاعدة في ذلك هي: الإيمان بالأهداف والوسائل، عامل مهم في التمسّك بها وفي تحقيق الإنجازات.