يُولد الانسان صِفْراً؛ صفر اليدين من المال ووسائل الحياة والمعيشة، صِفْر الدماغ من العِلم والفهم، صِفْر الإمكانات والقوى، فهو لا يكاد يستطيع أن يفتح عينيه..، ولكنه لا يبقى كما هو وإنما يتدرج لحظةً لحظة، ودرجة درجة ليتكامل.
ولا يستطع التكامل والتقدم في حياته إلّا بمعونة الآخرين من حوله، فيعلّمونه ويساعدونه ويأخذون بيديه لكي يتعلّم ويتدرب على أن يمتصّ الحليب، ثم يأكل ويمضغ، ثم يحرك يديه ورجليه ويزحف، ثم يجلس ويتمالك نفسه، ثم يقف على رجليه، ثم يمشي، ثم يتعلم ويدرس ويعمل ويذهب ويأتي، وهكذا تجده يتقدم ويتكامل خطوة فخطوة بمعونة الآخرين ومساعدة مَنْ حوله.
ولو رفض هذا الانسان – فرضاً – المساعدة والمعونة وأراد أن ينمو ويكبر ويتعلم لوحده، لَواجه الكثير الكثير من المشاكل والصعوبات، ولتعثَّر في حياته، ولربما لا يصل الى ما يجب ويظل كطفل صغير، فحتى لو نما جسمه، فإن عقله وذهنه وقواه لا تنمو، ويظل يزحف في الحياة وإن مشى على رجليه، هذا على المستوى الفردي.
📌 لا يستطع التكامل والتقدم في حياته إلّا بمعونة الآخرين من حوله، فيعلّمونه ويساعدونه ويأخذون بيديه لكي يتعلّم ويتدرب
أما حينما يكبر هذا الانسان، ويتعلّم الكثير من الآخرين، ويقف على رجليه في إدارة امور الحياة بعد مساعدة غيره التي ربما ينساها ويتصور أنه هو الذي فعل كل ذلك.
بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة التكامل الاجتماعي لكي يبني – الى جانب الآخرين ومعهم – حياة حرة كريمة فيها مقومات التسامي المعنوي، والتقدم العلمي، والكمال – أو شبه الكمال – في سائر جوانب الحياة المعيشية (الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، والادارية).
في هذه المرحلة أيضاً، ورغم أنه كبر سناً وأصبح له من العمر سنوات طوال، ورغم أنه خرج من دائرة الجهل الى فسحة العلم والدراية، ورغم أنه أصبح يمتلك من القوى والامكانات التي تساعده في مسيرة الحياة، رغم كل ذلك يجد نفسه غير قادر على العيش وحده وبعيداً عن الحاجة للمجتمع، بل العكس فإن حاجته الى التكامل مع الآخرين تتضاعف.
لأن أهدافه في الحياة تكبر، وتحقيق الأهداف الكبيرة تحتاج الى تعاون وتعاضد أكبر مع الآخرين ممن يعيش معهم، ليس على صعيد الأسرة، بل على صعيد المجتمع الذي يعيش بينه، في قريته، بل مدينته، بل وطنه، بل على صعيد كل العالم الذي أصبح اليوم كقرية واحدة.
📌 المنقذ مما نحن فيه ليس إلّا العودة الى الله بالمعنى الشامل في كل مناحي الحياة، وبالتعاون والوحدة والتعاضد في طريق التكامل
وهنا يشعر الانسان أنه بأمسّ الحاجة الى من يرسم له خارطة الطريق، إذ أنه يواجه العديد من المسالك والدروب، ولا يستطيع لوحده ان يميّز بين ما يصلحه وما يُفسده، بين ما يهديه الى القمة أو ما يدعّه الى الحضيض.
وتأتي رسالة الله الخالق البارئ العليم لتقول له: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. (سورة آل عمران؛ الآية/ 102).
وحق التقاة يعني: أن تتحمل مسؤولياتك وتعمل بواجباتك تجاه ربك، وتجاه نفسك، وتجاه محيطك الاجتماعي، هذا هو الجانب الايجابي من (التقاة) أما الجانب المقابل فهو أن تمتنع عن كل ما يضرّ بعلاقتك بربك، وكل ما يضرّ نفسك، ويضرّ مجتمعك من السيئات والمنكرات وكل الأفكار والمواقف والتصرفات السلبية الهدَّمة، وهكذا تؤكد الرسالة للانسان بالقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. (سورة آل عمران؛ الآية/103).
فلكي تتكامل باتجاه الصعود الى القمة، فلا بد لك من التعاون والتقارب والتعاضد مع الآخرين ولكن على محور ثابت هو الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق.
أمران أساسيّان لبناء الحياة الاجتماعية السليمة: الوحدة وعدم التفرق، ولكن على أساس متين هو حبل الله، وحبل الله ليس إلّا دين الله ورسالته التي حملها الرسل الينا عبر تاريخ طويل.
فلكي نبني حياةً كريمة بعيدة عن الاستكبار والاستئثار والظلم والتقاتل، ولكي نستثمر العلم في مجالات بنّاءة تقدم الرفاه والنعيم للبشرية، لا مفرَّ لنا من الاجتماع حول محور الرسالات الالهية، ولا مناصّ لنا من طاعة الله ورسوله والأئمة الهداة.
إنَّ كل ما تراه في عالمنا اليوم، وفي غابر الايام ايضاً، من التنازع، والتجارب، والتقاتل، والظلم، والطغيان، وسحق الكرامات والحقوق..، إنما هو بسبب ابتعاد البشرية عن محور الرسالات الالهية وترك الاعتصام بحبل الله، وبسبب التفرق والتمزّق، وبسبب الانانية والتفكير الذاتي سواء على المستويات الفردية لدى كل انسان، أو على المستوى الاجتماعي العام في مجال القوى والحكومات والدول العظمى والصغرى وغيرها.
فالمنقذ مما نحن فيه ليس إلّا العودة الى الله بالمعنى الشامل في كل مناحي الحياة، وبالتعاون والوحدة والتعاضد في طريق التكامل، سواء التكامل المعنوي في التقرب الى الله ـ تعالى ـ، او في بناء الحياة الكريمة التي أرادها الله لنا عبر رسالاته التي تشكل خارطة طريق الفلاح والسعادة في الحياة.