- مقدمة
الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام، سادس أئمة أهل البيت، عليهم السلام، وأطولهم عمراً الذي كان أستاذ أئمة المذاهب كلها في كل شيء لاسيما الفقه، والتفسير، والكلام، والعربية، وذلك لأن في شاعت المذاهب وعُرف أئمتها والجميع كانوا عيالاً عليه إما تلاميذ مباشرين كأبي حنيفة النعمان بن ثابت، أو غيره ممَّن تربَّى على أيدي تلاميذه، وبالمجمل كان الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، قمَّة من القمم الإنسانية، ومفخرة من مفاخر المسلمين عبر العصور.
وكان لهذا الإمام العظيم، عليه السلام، أدوار مختلفة في حياة الأمة الإسلامية والمسلمين بشكل عام ولكن ما نريد أن نتحدث فيه في هذه المقالة هو الجانب التربوي للإمام الصادق، عليه السلام، على مستوى النخبة وليس على مستوى الأفراد والأطفال وغير ذلك، بل على مستوى الكبار الذين حملوا عبء نقل هذا التراث العلمي والديني والفكري والفقهي من الإمام، عليه السلام، إلى الأجيال من بعدهم فحافظوا على ذاك التراث الروحي والعلمي العظيم ومازلنا نتناقله وندرسه ونعيش على مائدته العلمية والفكرية المباركة.
- أدب الله أولاً
ونتحدث عن الأدب لأننا نعيش في هذا العصر بنوع من قلة الأدب تجاه أنفسنا، وأهلنا، وعلمائنا، ومراجعنا، وصار لدينا خلل في المنظومة التربوية والأدبية، والأخلاقية بما غزانا به هؤلاء بتفاهاتهم، وسوء آدابهم، وقلة تربيتهم لأنهم يسعون لإخراج الناس من فطرتهم، ومسخهم من إنسانيتهم، والكثير من هذه الأجيال الشابة تسير خلفهم إلى حتفهم للأسف الشديد، فعلينا العودة إلى تلك المنظومة التربوية الراقية جداً لمدرسة أهل البيت الأطهار، عليهم السلام، لأنهم هم الذين أدَّبهم الله، ليؤدبونا على آدابه وأخلاقه، كما يقول الإمام الصادق، عليه السلام، في هذا المجال: “إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ثم فوَّض إليه أمر الدِّين والأمة ليسوس عباده”.
📌 يجب أن ننتبه إلى قاعدة تربوية هي غاية في الأهمية؛ وهي على المربِّي أن يكون متربِّي ليؤثِّر في طلابه وتلاميذه، وإذا لم يكن كذلك فلا يتصدى للتربية لأنه سيفشل ففاقد الشيء لا يُعطيه
وقال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، ولكن هذا الأدب وتلك الأخلاق كانت متوارثة، فقال، صلى الله عليه وآله: “أنا أديب الله وعليٌّ أديبي”، باعتباره الوصي والإمتداد الرسالي، ولكن لم يقف الأمر عند الإمام علي، عليه السلام، بل تعداه إلى أبنائه حيث قال، عليه السلام: “إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أدبه الله عز وجل وهو أدبني وأنا أؤدب المؤمنين وأورث الأدب المكرمين”، ومن أئمة المسلمين، عليه السلام، كان التأديب من نصيب الشيعة الكرام من أئمتهم، عليه السلام، في كل العصور والأدوار.
- الإمام الصادق، عليه السلام، وتربية الشيعة
من هنا نعلم مدى أهمية وضرورة دراسة دور الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، في تربية الشيعة، لأنه صاحب المدرسة العلمية الكبرى التي لم يشهد التاريخ الإسلامي مثيلاً لها، فقد ضمَّت بين جنباتها أكثر من أربعة آلاف طالب وتلميذ كل يقول: “حدثني جعفر بن محمد الصادق”، فأي عظمة وتربية كانت تأتلف كل هذا الكم الهائل من الطلاب والتلاميذ من مختلف المشارب والمآرب؟
ويجب أن ننتبه إلى قاعدة تربوية هي غاية في الأهمية؛ وهي على المربِّي أن يكون متربِّي ليؤثِّر في طلابه وتلاميذه، وإذا لم يكن كذلك فلا يتصدى للتربية لأنه سيفشل ففاقد الشيء لا يُعطيه، فمَنْ أراد أن يُربِّي الأجيال عليه أن يربِّي نفسه ليكون قدوة لهم في سلوكه وأدبه، وأخلاقه، وعلمه وفضله وكل شيء فيه.
وهكذا كان الإمام الصادق، عليه السلام، الذي تربَّى في حِجر أبيه باقر علوم الأنبياء والمرسلين، ومن قبله في حجر جده زين العباد الإمام السجاد، عليه السلام، وأنعم بهما وأكرم من إمامين تربيا على جدهما النبي، صلى الله عليه وآله، وتخلقا بأخلاق القرآن الكريم أيضاً.
فمَنْ يدرس حياة وسيرة الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، يتعجب من تلك الطريقة التربوية الراقية جداً لطلابه وتلاميذه لا سيما النجباء منهم، ليعدَّهم كقادة موجهين ومبلغين عنه وعن آبائه الأطهار دين الله ورسالة رب العالمين، ومَنْ يتصدى لهذه المهمة النبوية فيجب أن يتأدب بأدب الأنبياء والمرسلين، عليهم السلام، وهكذا صنع منهم الإمام الصادق، عليه السلام، قدوات راقية مازلنا نقتدي بهم إلى الآن ونأخذ منهم، وعنهم العلم، والأدب، والأخلاق، والفضائل.
بعض القواعد التربوية التي بنا عليها الإمام الصادق، عليه السلام، طلابه وشيعته:
- القاعدة الأولى: تربية أنفسهم وتزكيتها
وهي القاعدة التربوية الأولى التي يجب أن يتربَّى عليها الإنسان لينطلق من نفسه، فيؤدبها ويهذبها ويربيها قبل أن ينطلق إلى المجتمع ليعمل فيه، ولذا اعتبر، عليه السلام، النَّقد البنَّاء سبباً لسدّ الفراغ، والضعف الذي يصيب الأفراد عادة فقال، عليه السلام: “أحب إخواني إليّ مَنْ أهدى إليّ عيوبي”، وأما بخصوص التعامل بين الأخوة فقال، عليه السلام: “إذا بلغك عن أخيك ما تكره فاطلب له العذر إلى سبعين عذراً فإن لم تجد عذراً فقل لنفسك: لعل له عذراً لا نعرفه”، أليس هذا ما نحتاجه في زمننا هذا؟
ولذا كان يُبيِّن لهم أنواع وصنوف الطلاب فيقول: “طلبة العلم ثلاثه فاعرفوهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل”، فكان يُربي الشيعة على الصنف الثالث من هذه الأصناف (للفقه، والعقل)، ثم يأمرهم بأوامره ونواهيه في التبليغ لدين الله ـ تعالى ـ.
- القاعدة الثانية: الدَّعوة إلى الإصلاح الاجتماعي
وبعد تربية الطلاب والمبلغين يجب أن ينطلقوا للتبليغ لدين الله وإصلاح المجتمع الذي أفسده بني أمية الطلقاء، وحكام بني مروان الأوزاغ، فصار الفساد في المجتمع مستشرياً فأراد الإمام الصادق، عليه السلام، أن يبث طلابه وتلاميذه لإصلاح المفاسد التي أحدثها أولئك بسياساتهم الظالمة ولكن كان يوصيهم بالرفق، والعلم، والفقه، حيث كان يقول، عليه السلام: “إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مَنْ كانت فيه ثلاث خصال: عالم بما يأمر عالم بما ينهى عادل فيما يأمر عادل فيما ينهى رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى”، فكم هي جميلة هذا القاعدة التربوية الذهبية وكم نحن بحاجة إليها في هذا العصر؟
- القاعد الثالثة: تقارن العلم بالعمل
هذه القاعدة التربوية الراقية التي رسَّخها الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، قولاً وعملاً، في نفسه ثم في طلابه وتلاميذه وشيعته، ولذا قال، عليه السلام: “العلم مقرون إلى العمل فمَنْ علم عمل، ومَنْ عمل علم والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل”، والعمل يجب أن يكون على هدى وبصيرة وليس بالعمى والجهل، قال، عليه السلام: “العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ولا يزيده سرعة السير من الطريق إلا بعدا”، هذه من القواعد التربوية الذهبية أيضاً لأن فصل العلم عن العمل يؤدي بالعالم إلى أن يكون بوقاً للسلطان، أو للشيطان، فيعيش النفاق بأجلى معانيه، وهؤلاء أضر على الأمة والمجتمع الإسلامي من جيش يزيد بن معاوية.
📌 التعامل التربوي في مجال العلم والتعلم، الذي أكد الإمام الصّادق، عليه السلام، على هذه الخطوة التي تقرن العلم بالعمل، وتقرن العلم والعمل بالأخلاق، لأن القاعدة المتينة لتربية المجتمع هي قاعد الأخلاق والفضائل
فالتعامل التربوي في مجال العلم والتعلم، الذي أكد الإمام الصّادق، عليه السلام، على هذه الخطوة التي تقرن العلم بالعمل، وتقرن العلم والعمل بالأخلاق، لأن القاعدة المتينة لتربية المجتمع هي قاعد الأخلاق والفضائل، وليس التفسخ والرذائل، فيجب توظيف العلم والعمل لأغراض أخلاقية نابعة من الرسالة الإسلامية المقدسة.
بهذه القواعد التربوية وضع الإمام الصّادق، عليه السلام، الطلاب والشيعة، على الجادة الصحيحة، والقاعدة الروحية والأخلاقية العامة، لتكون ضوابط يتعامل بها المؤمنون، ويطبقوها على أنفسهم، وفي كل ميادين الحياة، فتنمو الفضيلة، ويصلح الفاسد في المجتمع الإسلامي الذي يُراد إصلاحه.
- التطبيق العملي
يُروى أن الإمام الباقر، عليه السلام، أوصى ولده الإمام الصادق، عليه السلام، عندما حضرته الوفاة بأصحابه حيث قال له: “يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً”، فقال له، عليه السلام: “جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً”.
وهكذا فعل الإمام الصادق، عليه السلام، بالمدرسة العلمية لاسيما أولئك الكبار الذين كان يُميِّزهم الإمام، عليه السلام، كحمران بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب بن رباح هذا الرجل الكوفي الثقة، الذي كان جليل القدر، عظيم المنزلة، وكان مقدَّماً في كل فن من العلم كالفقه، والحديث، والقراءة، والأدب، والنحو، واللغة، ومن كبار التابعين وأصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق، عليهما السلام، فقد روى عنهم جميعاً ولقد روى عن الإمام الصادق، عليه السلام، فقط ثلاثين ألف حديث كما هو المشهور، وقال له الإمام أبو جعفر الباقر،عليه السلام: “اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك”.
وقال له الإمام الصادق، عليه السلام: “يا أبان ناظر أهل المدينة فإني أحب أن يكون مثلك من رواتي ورجالي”، وقال له أيضاً: “جالس أهل المدينة فاني أحب أن يروا في شيعتنا مثلك”. (رجال الكشي).
هكذا ربَّى الإمام الصادق، عليه السلام، أصحابه وشيعته ليكونوا منارات علمية، تضيء دروب الأجيال عبر العصور والدهور، وهكذا أدَّبهم بأدبه حتى كانوا مفخرة من مفاخر المسلمين في كل عصورهم ودهورهم إلى اليوم بحمد الله وفضله.