كنت منذ سنوات قليلة في كربلاء المقدسة ملبياً دعوة كريمة للمشاركة في مهرجان ربيع الشهادة الذي يقام في العتبتين المباركتين، بمناسبة ولادة الأقمار الهاشمية، والدُّرر الحيدرية، والذرية النبوية الفاطمية، الذين أضاؤوا الكون بالنور، وملؤوا الدنيا بالخيرات والبركات، لا سيما السبط الكريم سيد الشهداء الإمام الحسين، عليه السلام، وولده العظيم؛ الإمام علي بن الحسين السجاد، عليه السلام، وأخاه قمر العشيرة العباس بن علي، عليه السلام.
في تلك الفترة زرتُ سيداً جليلاً تعرَّفتُ عليه في مشهد مولانا الرضا، عليه السلام، من قبل، و وعدته بالزيارة إذا نزلت في كربلاء المقدسة، وفعلاً اتصلتُ به وذهبتُ إليه رغبةً ومحبةً لأنه من نسل وذرية الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، ولديه مؤسسة ومضافة باسم الإمام السبط الأكبر، عليه السلام.
عندما استقر بنا المجلس راح يُحدثني عن حادثة جرت معه غيَّرت حياته -كما يقول- وذلك حين كان يدرس الدكتوراه في جامعة مصرية -وأعتقد أنها الأزهر- فسألته عن التفاصيل ودققتُ بما يقول.
قال: كنتُ في بداية دراستي للتاريخ وكان لدينا أستاذ قدير ومتمكن من درسه ومادته، و ذات يوم عرف أنني من السادة الذين ينتسبون إلى سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليه السلام، فسألني من أي السادة أنت؟
فقلت: السادة الحَسَنية، أي؛ من ذرية الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، فقال كلمة استفزتني، حيث قال: «في الحقيقة جدك الحسن كان أعظم سياسي في التاريخ الإسلامي» فقلت مبهوراً: كيف ذلك دكتور؟!
قال: بصلحه مع معاوية الذي جمع الأمة فيه! ثم استطرد بكلمة أساءَ بها للإمام الحسن، عليه السلام، بنفس الوقت؛ لماذا صالح وسلَّم مقاليد السلطة والأمة، لمعاوية ليُفسد فيها.
يقول السيد: انزعجتُ من كلامه الذي صدمني به، بعد أن بهرني بالحقيقة التي يعرفها ويعترف بها، إلا أنه لم يستطع أن يستوعب فلسفة صلح وهدنة الإمام الحسن، عليه السلام، لمعاوية بن أبي سفيان في عصره.
-
سياسة الإمام الحسن، عليه السلام، وحكمته
الحقيقة التي غابت عن الكثير من الخواص وكبار رجالات الأمة؛ قرار الإمام الحسن، عليه السلام، وسياسته الحكيمة التي أنقذت الدين الحنيف، والأمة الإسلامية الفتية من مكائد بني أمية الطلقاء، لاسيما معاوية؛ الداهية الذي عرف من أين تُؤكلُ الكتف، فكانت سياسته «الغاية تبرر الوسيلة»، المعروفة اليوم بالميكيافلية، فهو لا يردعه رادع، ولا يمنعه مانع، من أن يفعل أي شيء، أو يرتكب أي جريمة، أو يصفي أي انسان يقف بوجه سلطته، أو يمنع وصوله إلى الكرسي والحكم.
ولكن؛ كان معاوية يتستَّر بالدين، ويتظاهر بالصلاة والصيام وبقية المظاهر الدينية التي تُشرِّع له الحكم، لاسيما وأنه معيَّن من الخليفة الثاني، وابن عمِّ الخليفة الثالث الذي تركه يُقتل، بل دفع لقتله ليطلب الخلافة والحُكم بدمه، وهذا واضح وبيِّن من خلال سيرته التي فضحها وكشفها على حقيقتها الإمام الحسن، عليه السلام، وسياسته الحكيمة.
يروي صاحب العقد الفريد: «قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة، فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة ابنة عثمان وبكت ونادت أباها؛ فقال معاوية: يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا ذلّاً تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني ابنة عمّ أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس»! (العقد الفريد: ج5 ص 113)
فسياسة معاوية ماكرة غادرة، كرسها للوصول إلى الكرسي، وأما سياسة الإمام الحسن، عليه السلام، فهي إيمانية إلهية، وهدفه تبليغ دين الله، وحفظ رسالة الإسلام، وحماية الأمة الفتية من الانهيار والتشرذم والضعف بعد كل تلك الهزاهز التي تعرضت لها على أيدي الحزب الأموي، وكان لمعاوية وأبيه يدٌ في كل بلاء نزل بالأمة منذ أن بُعث رسول الله، صلى الله عليه وآله، والتاريخ يشهد.
وسياسة معاوية مبنية على أساس دنيوي ونابعة من أصل جاهلي، وأما سياسة الإمام الحسن، عليه السلام، فهي مبنية على أساس قيَمي حضاري، ونابعة من منبع سماوي إلهي، فالفرق شاسع جداً بل خطان متوازيان لا يلتقيان مهما حاول صبيان بني سعود وآل نهيان، ودينهم الوهابي المخترع من بقايا مسيلمة الكذاب، أن يوفقوا بينهما بالكذب والدجل كما يفعلون ليل نهار.
من هنا؛ كانت سياسة الإمام الحسن، عليه السلام، استمراراً لسياسة أبيه؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، الذي ما عرف التاريخ له نظيراً، ولم ينقل عن حاكم لدولة مترامية الأطراف وخيراتها كثيرة وفيها الذهب والفضة متراكمة وليس لديه شيء، وما في بلاده فقير أو جائع إلا هو، وعندما يريد أن يلبس أو يأكل، فهو كما قال: «قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ». (نهج البلاغة: رسالته لعثمان بن حنيف).
وأما السلطة والحكم والإمارة فهي كما وصفها لابن عباس في ذي قار حيث كان يخصف نعله: «لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلً» فالسلطة لإقامة الحق حيناً ولدفع الباطل أحياناً أخرى بميزان أهل الرسالة والدِّين، وليست للتسلط والقهر والتحكم بمصائر الناس وسرقة أموالهم والتعدي على أعراضهم دون حسيب أو رقيب، فالحسيب موجود والرقيب بالمرصاد، ويوم القيامة يخسر المبطلون.
ولذا نرى البعض ممن لم يفقه سياسة الإمام الحسن، عليه السلام، يوجه الى الامام الاتهام القاسي قائلاً له: «يا عار المؤمنين»! فيقول لهم: «العار خير من النار». (تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسن، عليه السلام: ص١٧١- ح٢٩١، ذخائر العقبى: ص١٣٩)
و روى الشيخ الطوسي، قال: «جاء سفيان بن ليلى وهو على راحلة له، فدخل على الحسن، عليه السلام، وهو محتبٍ (الجلوس وشدّ الرجلين إلى الصدر باليدين) في فناء داره، فقال له: السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين!
فقال له الحسن، عليه السلام: انزل ولا تعجل، فنزل فعقل راحلته في الدار، وأقبل يمشي حتى انتهى إليه، قال: فقال له الحسن، عليه السلام: ما قلت؟ قال: قلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وما علمك بذلك؟ قال: عمدتَ إلى أمر الأمة فخلعته من عنقك وقلدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله.
فقال له الحسن، عليه السلام: ما خبرتَ لِمَ فعلتُ ذلك؟ ثم قال: سمعتُ أبي يقول:
قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: «لن تذهب الأيام والليالي حتى يلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم رحب الصدر يأكل ولا يشبع وهو معاوية، فلذلك فعلت». (اختيار معرفة الرجال ج١: ٣٢٧ ح: 178، شرح ابن أبي الحديد ج16:ص16، بحار الأنوار ج44: ص23 ح 7).
-
إما الاقتداء وإما اعتزال المذهب
فعلى السياسيين في كل زمان ومكان ممَن ينتسبون إلى مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، ويتشرفون بالانتساب لها عليهم أن يقتدوا بأئمتهم، ويتأسوا بقادتهم الربانيين، لا أن يعيشوا الترف والاسراف والبذخ، كمعاوية وعمرو بن العاص، ويتكلمون باسم الإمام علي أو الحسن والحسين، عليهم السلام،، أو يتصرفوا بالظلم والعدوان كيزيد وأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد وهم يتحدثون بلسان المسموم المسجون الإمام موسى الكاظم وأبنائه الأكارم، عليهم السلام. وعلى السياسي أن يكون واضحاً مع مجتمعه وشعبه، مراعياً لمصالحهم لا لمصالحه الخاصة، وإن لم يستطع فليعتزل العمل السياسي، أو يعتزل الانتماء للمذهب ولا يحكم أو يتكلم باسمه الشريف، حتى لا يُحسب على الأمة الإيمانية والمذهب الحق فيكون عاراً وشناراً عليه، فالإمام المعصوم يقول: «معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً». (أمالي الصدوق: ص 240)
واعلموا أن «كفارة العمل لدى السلطان خدمة الاخوان»، كما قال الإمام الكاظم، عليه السلام، للوزير علي بن يقطين، ولم يُذكر كفارةٌ غيرها، فلماذا كل هذا التجبر والتعالي والغرور كبني سفيان؟
والإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، راية هدى دائمة، ونور على علم، يهدي الجميع إلى الحق والخير والفضل، أما آن لنا أن نعي رسالة الإمام، ونفقه فلسفته من الهدنة والصلح الذي مهَّد به لنهضة صنوه سيد الشهداء، عليه السلام؟