ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (5) كيف نربح بالصمت؟*

يقول أمير المؤمنين،  عليه السلام: “وهانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه”.

بعض الناس هم حاكمون على السنتهم، والبعض الآخر السنتهم حاكمة عليهم، فكيف يكون اللسان حاكما على الانسان؟

يكون ذلك في أربعة مواقع:

الموقع الاول: حينما يكون اللسان صاحب القرار

 فهذا الانسان اشبه بالدولة، ولسانه وزارة الاعلام، لكن القرارات لا تتخذها الدولة، بل وزارة الاعلام، فإذا صرح وزير الإعلام فإن على الدولة كلها أن تسير بعد الوزير، وهكذا هم بعض الناس، ترى لسانه هو صاحب القرار، وهو كالمهذار؛ يقول الكلمة، ويوعد الآخرين، ويتكلم عليهم..، وحسب ما قيل: يلقي الكلام على عواهنه، ثم يتورط بما قاله، لان عليه  أن يطبقه.

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “قلب الاحمق في فِيه ولسان العاقل في قلبه”، وذلك يعني؛ أن الاحمق يقول الكلمة ثم يبحث عن الادلة لها، ويبحث عن تطبيقاتها، أما العاقل فهو الذي يفكر أولاً، ثم يقول الكلمة، أي ان لسانه ترجمان قلبه، أما الاحمق بالعكس قلبه ترجمان لسانه.

الموقع الثاني: حينما يكشف الانسان السر

سواء سرَّ نفسه أم سر الآخرين، وهذا أيضا لسانه أميراً عليه، وفي  كلمة أخرى لامير المؤمنين، عليه السلام: “الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به”. فالكلام سجين عندك، فإذا تكلمت صرت سجينا عنده، واصبحت في وثاقه.

النوع الثالث: تناول الآخرين بالغِيبة والتهمة والنميمة

وهذا نوع يكون فيه اللسان أميراً على الانسان، في كلمة لأمير المؤمنين، عليه السلام: إن هذا اللسان جموح والله ما أرى عبداً يتقي تقوىً تنفعه حتى يختزن لسانه”.

النوع الرابع: حينما يقول الانسان ما ليس في القلب

وذلك أن يكون له موقفان متناقضان، وهذا نوع ـ أيضا ـ يكون فيه اللسان أميراً على الانسان، وبهذه الانواع الاربعة تهون النفس الانسانية.

إذن ما هو المطلوب تجاه اللسان؟

 ولماذا زوّد الله الإنسان باللسان؟

صحيح؛ أن الله زوّد الانسان باللسان، لكن يجب أن يتم تحريك اللسان بالمُخ، وبما أعطى الله الإنسان من العقل، ولهذا نكتشف الآخر؛ بأنه عقل، وصادق، وحكيم..، نكتشف ذلك عبر لسانه. فكم من أناس ظنّ فيهم الآخرون خيراً، ولكن حينما تكلموا اكتشفوا انهم من الحمقى، او من الجهلة.

📌 اذا استعطت أن تكون صموتا طوال الوقت فافعل، وكن المستمع الجيد، حتى الخطيب الجيد، يحتاج الى ان يكون مستمعاً جيدا

يُقال ان رجلا كان يملك فيْلاً مصابا في رِجْله، فأخذ الفيل الى السوق كي يبيعه فجاءه شخص وبدأ يدور حول الفيل، ويتفحص رجليه ويديه، ولم يشترِ ولم يتكلم في شيء.

فظن صاحب الفيل أن الرجل قد اكتشف العيب الذي في رِجل الفيل، وفيما هو واقف فإذا برجل آخر يأتي ليشتري الفيل.

فقال صاحب الفيل للرجل الأول: لو بقيت ساكتاً لدفعت لك ثلاثين بالمئة من ثمن هذا الفيل.

فبقي الرجل ساكتا، وتم بيع الفيل، وحصل على الثلاثين بالمئة.

فقال له صاحب الفيل: لماذا سكتَّ عن عيب الفيل؟

قال: اصلحك الله، لم أرَ فيلا في حياتي قط، فكنت امشي حوله حتى أراه.

ولذا اذا استعطت أن تكون صموتا طوال الوقت فافعل، وكن المستمع الجيد، حتى الخطيب الجيد، يحتاج الى ان يكون مستمعاً جيدا، لأن المهذار رجل فاشل في حياته، جاء عن الإمام الصّادق عليه السلام، أنّه قال: “دَلِيلُ العاقِلِ التَّفَكُّرُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمتُ”، فإذا رأيت انسانا يتكلم كثيرا فاعرف أن في عقله خللا، وخلاف ذلك الانسان الصموت، ولذا ورد في الرواية” كاد الصموت أن يكون ملهَما”.

الله ـ تعالى ـ اعطى لسانا واحد، وخلق له اذنين، حتى يسمع ضِعف ما يقول، لا أن يقول ضِعف ما يسمع، فالمطلوب إذاً الصمت مع التفكر، وان يستعمل الانسان الكلمة في مواقعها.

العظماء في التاريخ كانوا قليلي الكلام، فتراهم يصمتون عاما، ولكنهم يتكملون الحكمة، ولا يتدخلون فيما لا يعنيهم، ولا يتكلمون ما لا يعرفون، يقول أمير المؤمنين،عليه السلام: “لا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كل ما تعلم”.

📌 العظماء في التاريخ كانوا قليلي الكلام، فتراهم يصمتون عاما، ولكنهم يتكملون الحكمة، ولا يتدخلون فيما لا يعنيهم، ولا يتكلمون ما لا يعرفون

فهل يظن الانسان أن الكلمة تضيع في هذا الكون الذي هو كالجبل يردد كل شيء ولو بعد سبعين عاما، ولهذا فإن على الانسان المؤمن أن يتعلم قولَ الخير، ليسمع الخير، فأحد الآباء قال لابنه: قل خيراً تسمع خيرا، وفي احد الايام ذهب الطفل الى الغابة، وبدأ بإلقاء الاناشيد، وفي هذه الحالة سمع صدى صوته في الغابة، فظن أن هناك شخصا آخر يستهزئ به، فبدأ الطفل بالسباب، فسمع أن السبَّ يرجع إليه؛ فقال:

أيها الأحمق.

فسمع الطفل: أيها الاحمق.

قال: أنت طفل بذيء

فسمع: أنت طفل بذيء.

وحينما عاد الى البيت أخبر اباه بما حصل معه في الغابة، فقال له الأب: يا ولدي لو قلت خيرا لسمعتَ خيرا، فقلتَ شرا، فسمعت شرا.

فإذا كان الكون صدى بالنسبة لما يردده الانسان، فلماذا لا نقول خيراً، وإلا نصمت، حينما يدخل الواحد منا في مجلس يظن أنما يكسب الآخرين بكثرة كلامه، لكن الحقيقة ان يكسبهم بكثرة استماعه، ولذا فإن على الانسان أن يكون صاحب القرار الأول والأخير في كل كلمة يقولها، لا أن يجعل لسانه يتحكّم ويسوقه الى ما لا يُحمد عقباه.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا