سؤال مثير وجهه لي سائق سيارة أجرة في ايران بأن “كيف يندفع انسان الى إنفاق ماله لخدمة الزائرين المشاة على الاقدام في اربعين الامام الحسين، عليه والسلام، ولا يندفع لبناء بيته المتهالك”؟!
سؤال طالما راود الآلاف، لاسيما من هم خارج العراق من مشاهداتهم لمظاهر الضيافة والعطاء والبذل أيام زيارة الاربعين، بل وحتى في الزيارات المليونية الاخرى، ونفس السؤال تبادر الى ذهني ونحن نستذكر حادثة هدم قبور أئمة البقيع، وهم أربعة معصومين يفتقدون لمراقد ومزارات كالتي نراها اليوم في العراق وايران، والمطالبة بإعادة بناء المراقد بما يليق ومنزلة سبط رسول الله؛ الامام الحسن المجتبى، والامام زين العابدين، والامام الباقر، والامام الصادق، عليهم السلام، ففي معظم البلاد الاسلامية تتفاقم أزمة السكن، ويعيش الكثير تحت وطأة تكاليف الإيجار المتصاعدة، فأيهما أولى؟!
الاجابة واحدة على السؤالين؛ عمّن يفضّل زيارة الامام الحسين، ويفضل بناء مراقد الأئمة والأولياء الصالحين على حياته الشخصية، فمن خلال تحليل الحالة النفسية، والشخصية الدينية للانسان الشيعي يتضح أن سببين –من جملة اسباب- يقفان خلف هذا الموقف المميز:
- السبب الأول: الاستثمار المعنوي المربح
الشريحة الفقيرة او المتوسطة هي الغالبة على جموع الزائرين في الاربعين الحسيني، وسائر الزيارات المليونية، كما لاحظها قساوسة مسيحيون، ورجال دين ومفكرون من طوائف دينية مختلفة، شاركوا في مواكب المشي الى كربلاء، وهذه نظرة صحيحة الى حدٍ ما، لكن ليست مطلقة بالمرة، فقد يشارك الاثرياء ايضاً في هذه المسيرات لزيارة الامام الحسين، بدعوى ان الفقراء ليس لهم ما يخسرونه، او يهتمون به من علاقات وارتباطات تجارية، فيجدون ملجأهم وحلال مشاكلهم في المراقد المقدسة بعد ان خذلتهم السياسة والسياسيون.
📌 إن التفاعل والتعاطف مع قضية مراقد ائمة البقيع ليس فقط للمطالبة بتشييد البناء الجميل والجذاب فقط، بل للمطالبة بإحياء قيم ومبادئ هؤلاء الأئمة بإحياء ذكراهم في كل حين
هذه النظرة السطحية تفيد اصحابها، إنما الحقيقية أكبر من هذا بكثير، فالذين يفكرون بمراقد الأئمة والصالحين يعقدون صفقات استثمار معنوية ذات ارباح عظيمة اكثر وأضمن من الاستثمارات المادية (التجارية)، فالذي يبني الدار –في نظرة هؤلاء الزائرين- ويوفر الأموال لزواج الشباب، ويعالج المريض، ويحقق النجاح في الدارسة وغيرها من الآمال، ليس المال وحده، وإنما الأخلاق الاجتماعية، والتوكل على الله –تعالى- والبناء النفسي والروحي من خلال تنمية ملكات التقوى والورع واحترام حقوق الآخرين، وبدون هذه الشروط لن يستقر حجر على حجر، وإن أصرّ صاحبها، فهي ربما تدوم لبعض الوقت ثم لا تلبث ان تتحول خراباً لا بركة فيه ولا فائدة لان المال الحرام والظلم والغشّ دخل في لبناته واساس بنائه.
ولعل من هذا نفهم معنى “البركة” من زيارة المراقد المشرفة، و ربط حياتنا باصحاب هذه المراقد، فقد جاء في معاجم اللغة: البركة؛ النماء والزيادة، و برك الرجل؛ ثبت، أقام.
فالمؤمنون في كل مكان، وبدافع العقل، يفضلون الاعتماد على ما هو ثابت وقائم وماثل للزيادة، على ما هو زائل ومضطرب، كما هي اسواق المال والاعمال، وهذا ليس انتقاصاً من العمل التجاري مطلقاً، فهو مطلوبٌ في كل الاحوال، انما الكلام في اعتماده الاساس في الحياة.
إن التفاعل والتعاطف مع قضية مراقد ائمة البقيع ليس فقط للمطالبة بتشييد البناء الجميل والجذاب فقط، بل للمطالبة بإحياء قيم ومبادئ هؤلاء الأئمة بإحياء ذكراهم في كل حين، فلكل إمام يعلو قبره التراب في المدينة المنورة، قضية ذات مدخلية في بناء الانسان وتشييد الحضارة، بدءاً من الامام الحسن المجتبى، وكيف أسس لثورة عارمة على الظلم والانحراف والتضليل، ثم الامام السجاد، ونهضته الوجدانية بالدعاء والدموع، والإمامان؛ الباقر والصادق، ونهضتهما العلمية الباهرة، وهذا تحديداً ما كان يريده المخربون لهذه المراقد في البقيع، وما يصرون عليه اليوم والى أمد غير معلوم لقطع الصلة أبداً بين الثائر الكبير، والمُربّي الفضال، والعالم النحرير، وبين عامة المسلمين، وشيعة أهل البيت بشكل خاص.
- السبب الثاني: العلاقة الأبوية
ثمة شعور خاص يتملّك الزائرين لمراقد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، أن ثمة يد تحنو عليهم وهم يقرأون الزيارة في جانب، ويؤدون صلاة الزيارة في جانب آخر، فيشعرون بالراحة، والرضى، والثقة بالنفس لمواجهة كل المنغّصات والعقبات في الحياة، وإلا ما الذي يدفع مئات الآلاف لقطع المسافات البعيدة لزيارة الامام الحسين، عليه السلام، وسائر الأئمة المعصومين، وايضاً الأولياء الصالحين، وهم في ذلك، ينفقون الاموال، ويبذلون الجهد والوقت، وجميعهم محاصرون بالمشاكل والازمات المختلفة؟
ربما يكون لموقف عابر وبسيط لأمير المؤمنين أثره البالغ في تأسيس مفهوم “المحاكاة” عندما نهى أحد اصحابه التشبّه به في ملبسه ومأكله، ظاناً أنه بهذا يقتدي بالامام في زهده بالدنيا، فقال له: “ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره”، بمعنى؛ أني أكون في حال أفقر الناس حتى يشعر الفقير بمرارة فقره وهو يرى الحاكم متنعّم بالسيارات الفارهة والبيوت الفاخرة.
📌 ثمة شعور خاص يتملّك الزائرين لمراقد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، أن ثمة يد تحنو عليهم، وهم يقرأون الزيارة في جانب، ويؤدون صلاة الزيارة في جانب آخر، فيشعرون بالراحة، والرضى، والثقة بالنفس لمواجهة كل المنغّصات والعقبات في الحياة
هكذا يرى الناس في أئمة أهل البيت، عليهم، المثل الأعلى في الانسانية بما يجعلهم في حالة استقرار وسكينة في النفس يحفظون بها على ايمانهم وعقيدتهم، وهذا ما لا يجدونه في أي مكان آخر يزورونه، ما خلا بعض بيوت الصالحين والمتقين، وهذا يجعلهم يبثون اليهم شكواهم من ملمّات الزمن، وطوارق الأحداث، ويطلبون العون منهم، والقصص عن الاستجابة لهذه الشكاوى كثيرة تتردد على الألسن، وهذا تحديداً ما يدفع الكثير من المؤمنين الميسورين للإسهام في تشييد مراقد الأئمة والأولياء الصالحين في بقاع مختلفة، وتوسعتها لتضم أكبر عدد من الزائرين، مع توفير أكبر قدر ممكن من الخدمات.
وفي الختام؛ الأئمة الاطهار، ومن قبلهم رسول الله، صلوات الله عليهم أجمعين، يدعون لأن نعيش الحياة الكريمة والهانئة بأقل قدر من المشاكل، لا أن نكون فقراء وبلا مأوى، والروايات متظافرة على الحثّ على العمل والإثراء والتملّك، ومحاربة الفقر والاستعطاء من الآخرين، إنما المهم في تشييد جسور العلاقة بهم قبل تشييد الدور والمحال التجارية والتفكير بالمال والمنصب والجاه الاجتماعي من اجل ضمان بقاء هذه الابنية لصالح الأعمال بعد الانتقال الى الدار الآخرة، حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.