مناسبات

دَولَةُ الحَقِّ وَالعَدلِ الكَونِيَّةِ المَهدَوِيَّةِ

ولد الإمام المهدي المنتظر في ليلة النصف من شعبان عام 255هـ في سامراء

📌 مقدمة أساسية

نقرأ في بعض أدبياتنا الإسلامية: “لِلْبَاطِلِ جَوْلَةٌ، وَلِلْحَقِّ دَوْلَةً“، وصولة، وذلك لأن الله ـ سبحانه ـ خلق هذه الحياة للحقِّ والصِّدق وليس للباطل والدَّجل، وربما في حديث الإمام الصادق، عليه السلام، ما يُبيِّن هذه المسألة بدقة، حيث قال: “إِنَّ لِلْحَقِّ دَوْلَةً، وَلِلْبَاطِلِ دَوْلَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِيلٌ فِي دَوْلَةِ صَاحِبِهِ، وَإِنَّ أَدْنَى مَا يُصِيبُ اَلْمُؤْمِنَ فِي دَوْلَةِ اَلْبَاطِلِ؛ أَنْ يَعُقَّهُ وُلْدُهُ، وَإِخْوَتُهُ، وَيَجْفُوَهُ إِخْوَانُهُ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُ رَفَاهِيَةً فِي دَوْلَةِ اَلْبَاطِلِ، إِلاَّ اُبْتُلِيَ فِي بَدَنِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، حَتَّى يُخَلِّصَهُ اَللَّهُ تَعَالَى مِنَ اَلسَّعَةِ اَلَّتِي كَانَ أَصَابَهَا فِي دَوْلَةِ اَلْبَاطِلِ، لِيُؤَخَّرَ بِهِ حَظُّهُ فِي دَوْلَةِ اَلْحَقِّ فَاصْبِرُوا وَأَبْشِرُوا“.

هي بشارة لنا في هذه الأيام العصيبة، وهذا العصر، حيث نرى العداوة ولا نرى أسبابها، ففي الرواية الشريفة الجواب لكل مَنْ يسأل: لماذا يُصيبنا ما أصابنا؟

فنحن نعيش في دولة الباطل التي طالت أيامها، وحلكت لياليها على المؤمنين، ولا سيما أولئك الرَّهط الكرام المنتظرين لذاك النور الأنور، والسِّراج الأزهر، الذي وعدنا به الله ـ سبحانه ـ، وبدولته المباركة في كتابه الحكيم حيث قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص: 6).

وهل من مستضعفين في الأرض كهؤلاء المؤمنين الذين يُقتَّلون ويُشرَّدون ويُسجنون في السجون والمطامير، بلا ذنب لهم إلا أن يقولوا ربنا الله ويحبون أهل البيت، عليهم السلام، ويؤدون أجر الرسالة الخاتمة كما أمرهم الله سبحانه بقوله: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}. (الشورى: 23)، فعندما نودُّ أهل البيت، فإننا نؤدي لهم حقهم، وندفع للإسلام أجرته التي طلبها الله ورسوله من المسلمين.

📌 دولة الحق المنتظرة

والعاقل في هذه الحياة عليه أن يفكر ويتأمل فيها جيداً فهل خلقنا الله عبثاً؟ أو هل خلق كل هذه المنظومة المتكاملة من المخلوقات الكونية الرائعة جداً لأجل الفاسقين، والفجار، والكفار والمشركين الذين يعبدون الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء؟

أبداً؛ الخالق حكيم، ومدبِّر بارع، ومدير رائع، لهذا الكون الفسيح الذي خلقه لغاية وهدف واحد هو هذا الإنسان المخلوق المكرَّم الذي اختاره الله ليكون خليفته على الكون وفضَّله وأعطاه العقل ليكون له عاقلاً من الجهل، والإرادة ليمتلك الفعل والترك، ولا يكون كالبهائم التي تسيِّرها غريزتها، ويقوها نثيلها وعلفها، كما قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ اَلطَّيِّبَاتِ؛ كَالْبَهِيمَةِ اَلْمَرْبُوطَةِ، هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَو اَلْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ اَلضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ اَلْمَتَاهَةِ“، لأن الإنسان ما خُلق لهذا بل خُلق وغايته المثلى أن يكون إنسان الله في هذا الكون، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. (الذاريات: 56).

🔶 والعاقل في هذه الحياة عليه أن يفكر ويتأمل فيها جيداً فهل خلقنا الله عبثاً؟ أو هل خلق كل هذه المنظومة المتكاملة من المخلوقات الكونية الرائعة جداً لأجل الفاسقين

فهذا الكون، وهذا الإنسان مخلوق لعمارة هذه الأرض بالعبادة، والأعمال الصالحة، ولكن منذ أن هبط مع أبيه آدم وهو ملعباً لإبليس، ومطية للشياطين، فيخضع للطغاة والجبارين ويعصي الله رب العالمين، والله يُملي له ويمده حتى يذهب إلى نهايته المحتومة بالموت، ثم ليُقرن مع شيطانه في نار الجحيم.

وهذا ملخص تاريخ البشرية كله منذ الأيام الأولى له في هذه الأرض، حين وقعت أول وأشنع جريمة على وجهها حيث قتل الطالح أخاه الصالح، فقتل قابيل، هابيل، وبدأت رحلة الصراع، وفي معظمها كانت لصالح الباطل، حيث يفوز الحق بالشهادة، ويسقي شجرة الحق الباسقة بدمه الطاهر الزكي، وهذا هو تاريخ الأنبياء، والأوصياء، والأولياء التي قال عنها الإمام السجاد، عليه السلام: “أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ اَلْقَتْلَ لَنَا عَادَةٌ، وَكَرَامَتَنَا اَلشَّهَادَةُ“.

وتلك الكرامة التي ما بعدها كرامة حقاً إذ أن الشهداء عند ربهم يعيشون منعمين بما آتاهم ربهم من النعيم المقيم، وأما أهل الدنيا فإنهم يعيشون في دولة الباطل، وما هي إلا أيام يتداولونها فيما بينهم، فطاغية يصعد، وآخر يُدحر، والكل في غيِّهم وضلالهم تائهون يبنون للموت ويعمرون للخراب، وما أجمل وصفه تعالى لدولتهم: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}. (آل عمران: 140).

وفي خلال هذه المسيرة يتخللها فسحات من النور، كالسماء الملبَّدة بالغيوم الداكنة في الشتاء يتخللها بعض الفسحات البسيطة بين الغيوم سامحة لأشعة الشمس ونورها أن يصل إليهم ليستدلوا بشعاعها على وجودها وكذلك التاريخ وما فيه من ظهور الأنبياء والرسل، وما جاؤوا به من رسالات وكتب منزلة من السماء ليهتدوا بها في ظلماتهم الحالكة إلا أنهم تركوا الصالح المصلح، واتبعوا الطاغية الفاسد المفسد.

 ولكن هذه المسيرة النشاز إلى متى تسير؟ أما لهذا الليل أن ينتهي وللنهار أن يتجلَّى؟

نعم؛ لابدَّ من بزوغ فجر الخلاص، مؤذناً بولادة يوم جديد من تاريخ الإنسانية المعذبة، لترتاح فيه وتسكن في ظله، لأنها الدولة التي وعد الله بها الأنبياء والرسل والصالحين من عباده، وكذلك رسوله الكريم، الذي قال: “أَ لاَ أُبَشِّرُكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ بِالْمَهْدِيِّ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُ فِي أُمَّتِي سُلْطَاناً عَادِلاً، وَإِمَاماً قَاسِطاً، يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَهُوَ اَلتَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ وَلَدِيَ اَلْحُسَيْنِ، اِسْمُهُ اِسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي.. أَلاَ وَلاَ خَيْرَ فِي اَلْحَيَاةِ بَعْدَهُ، وَلاَ يَكُونُ اِنْتِهَاءُ دَوْلَتِهِ إِلاَّ قَبْلَ اَلْقِيَامَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً“.

ويقول رسول الله، صلى الله عليه وآله، في حديث طويل: “فَإِنَّ اَلدُّنْيَا لَمْ تَبْقَ لِأَحَدٍ قَبْلَنَا وَلاَ تَبْقَى لِأَحَدٍ بَعْدَنَا.. دَوْلَتُنَا آخِرُ اَلدُّوَلِ، يَكُونُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ يَوْمَيْنِ، وَمَكَانَ كُلِّ سَنَةٍ سَنَتَيْنِ، وَمِنَّا مِنْ وُلْدِي مَنْ يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً، وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً“، وهو مهدي هذه الأمة المرحومة به، وبآبائه الأطهار الأبرار.

وهي دولة قائمة حقيقة ولكن ما نُطلق عليه اسم (دولة الظل)، أي أنها مراقبة، ومعارضة لدولة الباطل والآن غير مفعَّلة، ولكنها تنتظر بعض قادتها وما نُسميه بأصحاب الإمام الحجة، عجل الله فرجه، وعدتهم (313).

 وعندما تكتمل عدَّتهم وتجهز حكومتهم، ويعيش الناس جميعاً بنوع من الضيق والضنك ويصلون إلى حالة الانقطاع واليأس من كل أحد، يأذن الله سبحانه له بالظهور ويؤيده بجنوده التي أيَّد بها كل الأنبياء والرسل الكرام منذ آدم وحتى النبي الخاتم، صلوات الله عليهم أجميعين، لأنه الوريث الشرعي والحقيقي لكل مواريث الأنبياء، فيأخذها ويقوم على اسم الله لبناء دولة الحق المنتظرة.

📌 دولة العدل والقسط

فقيام الإمام الحجة، عجل الله فرجه، لتحقيق حُلم الأنبياء، والأوصياء جميعاً بالعيش في ظل دولة كريمة، يُكرم فيها الأتقياء ويُذل الأشقياء، وتكون مسرحاً للمؤمنين كما كانت الدنيا مرسحاً للشياطين والظالمين، فأخذوا نصيبهم منها وجاءت كلمة الحق ودولة العدل في الحكم، والقسط في المجتمع، وهذا ما يحلم به البشر كل البشر، منذ أن وُجدوا على هذه الأرض، لأن العدل هو الذي يُحقق الخير والرَّخاء في البلاد والعباد، والقسط هو الذي يبلور الحرية والمساواة بين البشر، وبالتالي يسعى الجميع لبناء الحضارة الإنسانية المنتظرة، وتكون على هذا الأساس المتين، من الحق، والعدل، والقسط.

🔶 الحضارة ليست بالبناء العالي، ولا بالأرقام الهائلة في البنوك، ولا بالأسلحة النووية، والإبادة الجماعية، بل الحضارة تتحقق بحضور منظومة القيم السماوية، والفضائل الأخلاقية بين الناس

فالحضارة ليست بالبناء العالي، ولا بالأرقام الهائلة في البنوك، ولا بالأسلحة النووية، والإبادة الجماعية، بل الحضارة تتحقق بحضور منظومة القيم السماوية، والفضائل الأخلاقية بين الناس، لتسير المرأة من الشام إلى العراق، أو من مكة إلى المدينة لا يُهيجها شيء، ولا تخاف من أحد، ولا تحمل زاداً ولا ماء فالخير عميم، ومسيرة الأربعين المباركة ربما تُشير على هذا المعنى الرائع بأنها تُعطينا صورة حيَّة وواقعية لهذه الأحاديث والروايات الشريفة.

فالحضارة القادمة هي حضارة الإنسانية التي قتلها أبناء الحضارة الرقمية، وداستها جنودها بأحذيتها، والعالم المأزوم حالياً لا سيما وما نعيشه ونراه من إنطلاقة الحرب الكونية الثالثة كما يظن الكثيرون من المحللين الآن، وهي إن شبَّت فإنها لن تُبق شيأً من هذه الحضارة التي طغت وبغت وقتلت الإنسانية في أبنائها فراحوا يسعون إلى دمارها بأيديهم الآثمة.

فحضارة العدل هي حلم الإنسان ليعيش السعادة في هذه الحياة، وهي صورة مصغرة عن الحياة الأبدية في جنان الخلد الوارفة عند رب العالمين، وإنسان هذه الحضارة لا يعرف، ولا يليق به أي نوع من الشرف والكرامة لأنه ملأ الدنيا فساداً، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. (الروم: 41).

وإذا ظهر الفساد فإذنوا بحرب من الله ليُهلك الفاسدين، والظالمين ويستخلف عباده المؤمنين، تلك هي سُنة الله التي أخبرنا عنها وآمنا بها من أعماق قلوبنا، فحضارتنا قادمة، وإمامنا، وقائدنا، آتٍ لا محالة بإذن الله ـ تعالى ـ.

اَللَّهُمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ، تُعِزُّ بِهَا اَلْإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا اَلنِّفَاقَ وَأَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ اَلدُّعَاةِ إِلَى طَاعَتِكَ، وَاَلْقَادَةِ فِي سَبِيلِكَ، وَتَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ“.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا