هنالك سنن الهية يسير وفقها الكون، وتجري على اساسها حياة المجتمعات؛ منها “انتصار الحق على الباطل”، إذ يقول ـ تعالى ـ: {وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا}. (الاسراء/81).
فمهما طال الزمان ومهما كشّر الباطل عن انيابه؛ فان دين الله الحق لابد وان يظهر على الدين كله، اذ يقول ـ تعالى ـ: {هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.(التوبة/33).
ومادامت السموات والارض قد خُلقت بالحق وعلى اساس الحق؛ فإن سلطان الحق وحاكميته وسيادته سيكون متوافقا مع سير الكون، ونتيجة تكامل حوادثه باذن الله قال ـ تعالى ـ: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون}. (الانبياء/105).
وهذه الحقيقة التي اكدت عليها رسالات السماء ليست محدودة بقوم، ولا محصورة بوراثة الصالحين في قطعة محدودة من الارض،بل هي بيان لسنة الهية عامة تتحقق في ثورات الصالحين ضد الطغاة، وتتحقق بصورة تامة في وراثة الصالحين لكل الارض.
هذه الوراثة التامة هي التي تتحقق على يد قائم ال محمد، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، قال رسول اللّه، صلى الله عليه وآله: “لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول ذلك اليوم حتى يبعث رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا”.
⭐ الظهور وبصائر ثلاث
ان في كون صاحب الامر، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، هو الامام الثاني عشر من آل البيت، عليه السلام، وفي كون اقامة العدل والقسط ودحر للظلم والجور ابرز ما يتحقق على يديه، فإن ثلاث دلالات ذات مغزى عميق تبرز لكل متدبّر:
1- ضرورة اتباع نهج ال البيت، عليه السلام؛ فهم الطريق المستقيم الذي ندعو الله ـ تعالى ـ ان يهدينا اليه، اذ نقول في كل صلاة: {إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم}،فهذا الصراط هو اهل البيت، عليهم السلام، ولن ينفع الانسان ان يسير على غير نهجهم وهديهم.
📌 الطريق الوحيد لضمان عدم الضلال هو اتباع القرآن واهل البيت، عليه السلام، وهذا ما اكد عليه رسول الرحمة، صلى الله عليه وآله، في حديث الثقلين
وللاسف ورغم معرفة الكثير من اتباع وعلماء المذاهب الاسلامية الاخرى بأن القائم هو الامام الثاني عشر من الِ محمد، صلى الله عليه وآله، إلا انهم اتبعوا مناهج اخرى، ابعدتهم عن طريق الحق، اذ يقول ـ تعالى ـ: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.(الانعام/ 153).
فالطريق الوحيد لضمان عدم الضلال هو اتباع القرآن واهل البيت، عليه السلام، وهذا ما اكد عليه رسول الرحمة، صلى الله عليه وآله، في حديث الثقلين: “إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي- وَ إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ”. (وسائل الشيعة / ج27 ص 34 ).
فاهل البيت، عليه السلام، هم القيادة الربانية التي ترعى حركة القرآن في حياة الناس، وهي التي تحفظ مفاهيم القرآن من الزيغ والزلل؛ فهم الراسخون بالعلم، اذ يقول ـ تعالى ـ: {هو الذي انزل عليك الكتاب …وما يعلم تاويله الا الله والراسخون في العلم}.(ال عمران /7).
2- ان تجارب البشرية دلّت على ان المسيرة الطبيعية للنظم الحاكمة في الارض لن تصل بها الى تلك التطلعات السامية التي انطوت عليها نفوس البشر.
ان شكل السلطة والحكم الذي يمكن ان يحقق طموح البشرية في العدالة والرقي هو ذلك الشكل الذي حددته رسالات السماء؛ ولما كان الاسلام هو خاتم الديانات، اذ يقول ـ تعالى ـ: {ان الدين عند الله الاسلام}.( ال عمران/19).
فإن نظام الحكم الاسلامي هو النظام الامثل للبشرية اليوم، وهو القادر على اصلاح شأنها وانتشالها من القهر والظلم الذي تعانيه، والذي سيصل ذروته إبان ظهور الامام، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، حيث ان انظمة الحكم التي وضعتها البشرية لنفسها هي التي ستوصلها الى ذلك الدمار المحتوم، وهي التي ستملأ الارض ظلما وجورا، وما نشاهده اليوم من حجم الخراب الذي طال كثيرا من البلدان الاسلامية كالسعودية والبحرين واليمن مثلا؛ انما هو نتاج القهر والظلم، والتسلط الفردي الذي تمارسه انظمتها القمعية بحق شعوبها.
كذلك فإن شكل الدولة المدنية الذي يحكم اليوم في العراق؛ هي الاخرى لم تكن – وفي اكثر من موطن- افضل حالا من الانظمة الديكتاتورية؛ حيث ضاعت العدالة، وسلبت الحقوق، ونهبت الثورات، بل وحتى الدول المدنية في العالم الغربي هي الاخرى تقف وراء اكثر حالات الظلم الفاحش الذي يعمّ البشرية اليوم، وفي كل المعمورة.
📌 ان شكل السلطة والحكم الذي يمكن ان يحقق طموح البشرية في العدالة والرقي هو ذلك الشكل الذي حددته رسالات السماء
فما يحدث من قتل للابرياء في البحرين واليمن والسعودية وفلسطين سوريا ـ مثلاً- وتهجير الملايين من كل ارجاء العالم، انما يعبر عن حالة صارخة للظلم الذي تمارسه هذه الدول بحق شعوب الارض.
ان الفشل الصارخ لتجربة الدولة المدنية في العالم ومنها؛ العراق، وحجم الظلم العظيم الذي يطال الإنسا، يدعونا الى التفكير مليّاً بضرورة العودة الى حاكمية السماء، خاصة وان اشكال الحكم التي ابتكرتها الانسانية هي التي ستوصلها الى ذلك الدمار العظيم إبان ظهور الامام، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه.
3-الظهور و العدل والظلم، أما البصيرة الثالثة فإن اهم الاثار المترتبة على ظهوره، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، والتي ذكرتها الاحاديث الشريفة الكثيرة؛ هي اقامة العدل، والقضاء على الظلم، فلمَ هذا التأكيد على هاتين المفردتين؟ واين نحن من إقامة العدل في ممارساتنا الحياتية، من أبسطها الى أخطرها و اين نحن من تجنب الظلم؟!
⭐ العدل و محتوى رسالات الله
إن الله أمر بالعدل، كما أمر بأن نكون قوّامين بالقسط شهداء لله، إذ يقول ـ تعالى ـ: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ}. (النساء/ 135). والعدل هو إقامة الحق، كما هو دون ميل عنه، وهو الميزان الذي يجب أن نحكم به بين الناس حتى يسود العدل، فهو من أبرز القيم التي تفيض من الإيمان بالحق، فإنك إذا آمنت بكل حق، يترتب على ذلك وفاؤك به، بأن تعمل حسب إيمانك بكل حق، وحسبما يقتضيه كل حق منك.
فالعدل هو أن تعيش مستوياً، فلا تفحش وتتطرف في حالة على حساب حالة، فلا تبذير ولا إقتار، وكذلك لا رهبانية ولا فسوق، فالحق هو الذي به يتحقق العدل، فإذا أوتي كل انسان حقه فقد تحقق العدل.
⭐ ظلم العباد
والظلم حجاب كبير من حجب الضلالة، التي تمنع الهدى عن القلب، والحديث عن الظلم متشعب؛ فالظلم يبدأ من اتباع الهوى، ويستمر مع تزيين النفس، وينتهي الى ظلم العباد، ويستمر مع الكفر بعد الايمان، وتولي الكافرين، والافتراء على الله، والاعتقاد بتساوي الجهاد وسائر الاعمال، وغير ذلك.
فيجب على المسلم أن يتجنب ظلم غيره، حتى فيما يتصل بأكل مال قليل منه، مثل: غشه، أو بخسه في الميزان، أو غبنه في البيع أو ما أشبه، كما لا يجوز الاعتداء على الإنسان في سلب راحته التي هي من حقه، كإحداث الضوضاء في الليل، أو مزاحمته بتلويث البيئة المحيطة به، أو تخريب الحديقة التي يتمتع بها وقطع الأشجار التي تلطف هواءه وما أشبه.
كما يجب المحافظة على حرمات الناس وإن كانت غير مادية، فلا يجوز اتهامهم وجرح كرامتهم والنيل من شخصيتهم، وإشاعة سلبياتهم ونشر فضائحهم، كما لا يجوز إساءة الظن بهم.
⭐ مسؤوليتنا في زمن الغيبة
تقع على عاتق الامة مسؤوليات عديدة، أهمها:
1-اتباع علماء الصلاح
يدلنا إمامنا، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، على مسؤولية الامة في زمن الغيبة، وهو يجيب سائلاً في آخر ايام السفراء الاربعة، بأن هذه الفترة قد انتهت، وان الغيبة الكبرى اوشكت على البداية، فقال، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه مجيبا السائل: “وإما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله”؛ لذلك فإن مسؤولية الامة في زمن الغيبة الرجوع الى العلماء المخلصين الصالحين، الأمناء على حلال الله وحرامه، والذين لم تنل منهم شهوات الدنيا وبهارجها، المتقين لله الحاملين مسؤولية الدين الحنيف على اكتافهم.
وقد ورد عن الامام العسكري، عليه السلام: “فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعا لامر مولاه،فللعوام ان يقلدوه”، وهنا علينا الحذر من الذين يتحركون في خط الانحراف السياسي، وفي هذا يقول رسول الرحمة: “العلماء أمناء الرسل مالم يدخلوا في الدنيا قيل: يارسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال، صلى الله عليه وآله: اتباع السلطان”، فتراهم يبررون للسلطان افعاله، ويفتون بما يدعم اركان حكمه جورا وظلما.
ان غيبة الامام لم تترك الناس في فراغ بل اوكل الامام امورهم الى العلماء الصالحين العدول الاتقياء،المتحملين لمسؤولية الامة في كل ما يتعلق بحياتهم وثقافتهم،وشؤون دنياهم واخرتهم،وهؤلاء هم من يمثل خط النبي وال بيته صلوات الله عليهم اجمعين.
2- ممارسة العدل
فعلينا أن نجعل العدل صبغة سلوكنا الشخصي، ومحور علاقاتنا الاجتماعية، وهدف حضارتنا الاسلامية، وأن نجعل القيام بالقسط من صفاتنا ومسؤولياتنا التي نداوم عليها كالصلاة تماما، و أن نقوم بتوفير القوة الكافية لردع الذين يخالفون القسط.
وعلينا السعي لجعل الناس يقومون بهذا الواجب ايضا، فإن من مسؤولية المؤمن الاجتهاد في العمل بما يُرضي الرب وبالذات في الامور الاجتماعية، لذلك فإن من واجبنا ان نقوم بخدمة المجتمع وتعليم الناس وتربيتهم حتى يقيموا القسط في حياتهم، فليس الحفاظ على العدل مسؤولية الدولة فقط؛ لأن المجتمع الذي لا يشعر أبناؤه بضرورة تطبيق القانون، واحترام حقوق الآخرين؛ لا يمكن للدولة فيه – أنى كانت- أن تحقق له ذلك.
اننا اليوم بحاجة الى العدالة في مختلف مجالات الحياة، السياسية،والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والقضاء وكذا العدل في الجزاء والمسؤولية وحتى العدل في التعاملات الاسرية.
3- مقاومة الظلم
هناك مرحلتان متدرجتان لقيام المجتمع بمسؤوليته تجاه الظلم:
المرحلة الأولى: منع الظلم قبل وقوعه، وإقامة العدل.
المرحلة الثانية: في حالة وقوع الظلم فيجب التعاون على إزالته، وذلك بالشهادة ضده، لمصلحة صاحب الحق، وليس للإنسان أن يسكت عن إعلان موقفه من الظلم أنّى كانت الظروف، فلأن صاحب الحق ضعيف أو غريب، أو لأن الظالم له قوة أو من أقربائه أو أصدقائه أوغير ذلك، لا يجوز أن يكون هذا وغيره، مبرراً للسكوت عن الشهادة للحق.
أما علماء الدين، فإن عليهم أن يكونوا بمستوى المسؤولية الملقاة على عاتقهم كنواب عن الامام، والحجة على الناس، والامناء على حلال الله وحرامه، كما تقع عليهم مسؤولية نشر وتكريس الثقافة الدينية في أوساط الامة، وقيادتها الى شاطئ الامان، و غرس قيم الدين الحنيف في نفوس الناس،وتحقيق هدف الرسالات والانبياء والاوصياء في تحقيق مقاصد الشريع، والوصول الى المستوى الذي يجعل البشرية تتحرر من عبادة الطاغوت، واخلاص العبودية لله وحده لاشريك له.
📌 علينا أن نجعل العدل صبغة سلوكنا الشخصي، ومحور علاقاتنا الاجتماعية، وهدف حضارتنا الاسلامية، وأن نجعل القيام بالقسط من صفاتنا ومسؤولياتنا التي نداوم عليها كالصلاة تماما، و أن نقوم بتوفير القوة الكافية لردع الذين يخالفون القسط
وفي الختام؛ فإن الانتظار لا يعني السكون ولا الركون الى الظلم، والاستسلام للواقع الجائر، فلا يصح ان يكون انتظارنا سلبيا، بل يجب ان يكون ايجابيا، انتظار الامل والسعي والعمل.
فإذا كنا ننتظر الامام، لنكون جنوده في نشر العدل والقسط، والقضاء على الظلم والجور؛فعلينا من الان ان نعمل على ذلك بكل جد وصبر ومثابرة؛ لنعيش هذه التجربة من الان؛ ولنورثها الابناء والاحفاد؛ لترتقي هذه القاعدة الى المستوى الذي ينتظر امامنا، عجل الله ـ تعالى ـ فرجه، وصولها اليه، فالامام ليس مُنتَظرا اولا بل هو مُنتظِرا قبل ذلك، فهو منتظر للقاعدة التي يقودها لينشر الحق ليس في ديار المسلمين فحسب وانما في كل ارجاء المعمورة، فواجب علينا ان نعمل على تهيئة تلك القاعدة في كل بقاع المعمورة بلا كلل او ملل.
فانتظار الامام يفرض علينا ان نرتقي الى مستوى روحية وصفات اصحاب الامام عج وان يكون انتظارنا انتظار الرسالين لا انتظار الغافلين الخانعين المستسلمين الاتكالين.