صعد الخطيب على المنبر متحدثاً عن مآسي الإمام الكاظم عليه السلام، فقرأ حديثاً معروفاً ـ وهو المروي في الكافي الشريف ـ عن الإمام روحي له الفداء وهو يخاطب شيعته قائلاً: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ غَضِبَ عَلَى الشِّيعَةِ فَخَيَّرَنِي نَفْسِي أَوْ هُمْ فَوَقَيْتُهُمْ وَ اللَّهِ بِنَفْسِي“.
ضجَّ الجمهور بالبكاء بعد أن فسّر لهم الخطيب أن الوقاية هي من نار جهنّم، فقد تحمّل الإمام الآلام والمآسي، وتحمّل السجن الطويل في طامورة حتى قضى شهيداً كي يرتفع عن الشيعة العذاب فلا يؤاخذهم الله بعد ذلك بشيء من ذنوبهم!
بالرغم من أن هذه الفكرة تجعل الإنسان بفطرته ينهار أمام هذا العطاء الجميل والتضحية العظيمة، إلا أنَّ تطابق هذه الفكرة من جهة مع فكرة المدارس النصرانية من تحمل عيسى الآلام لغفران ذنوب اتباعه، والذي جعل الكنيسة الباباوية في روما تبتدع في عام 1215م صكوك الغفران، وتبيعه لمن يريد غفران ذنوبه، ومن جهة اخرى تنافر هذه الفكرة مع سيل الآيات والروايات الدالّة على أن الإنسان مسؤول عن فعله، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، ولا ريب {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، كل ذلك يجعلنا نعيد النظر في تفسير هذه الفكرة بمراجعة الظروف التي صدرت فيها هذه الرواية.
◼ توافر الظروف للقيام بالتغيير
الذي يظهر من خلال جملة من النصوص التاريخية، أن فترة الإمامين الباقرين عليهما السلام، كانت كفيلة بإعادة بناء الأمة الإسلامية بناءاً يجعل من قيام دولة الحق أمراً ممكناً، وذلك ببث الأئمة العلوم عبر تلاميذهم من جهة، وقيام الحركات الرسالية الموالية للأئمة عليهم السلام بالثورات المختلفة وقض مضاجع الحكم العباسي.
فمثلاً نقرأ في الحوار الذي دار بين الإمام عليه السلام وبين هارون، تصريح من الأخير بإرادة الإمام وشيعته الإنقضاض على الحكم، بل ولم يخفي الإمام ذلك فحينما أدخل على هارون فقال: ما هذه الدار؟ فقال الامام: “هذه دار الفاسقين قال الله ـ تعالىـ: {سَاصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}“.
فقال هارون: فدار من هي؟ قال: “هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة” قال: فما بال صاحب الدار لا ياخذها؟ فقال: “اخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة”.
الذي يظهر من خلال جملة من النصوص التاريخية، أن فترة الإمامين الباقرين عليهما السلام، كانت كفيلة بإعادة بناء الأمة الإسلامية بناءاً يجعل من قيام دولة الحق أمراً ممكناً
قال فأين شيعتك؟ فقرأ ابو الحسن عليه السلام: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}.
كما أن المشتهر عند السلطة كانت أن الإمام سلام الله عليه، هو المهدي الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فلذا نودي على جنازته: هذا إمام الرافضة يزعمون أنه لا يموت فانظروا إليه ميتاً.
◼ التقية وأقسام الشيعة
من المفاهيم الشرعية المهمة التي جلعت من جنود العقل وجعل في قبالها الإذاعة، هو مفهوم التقية، حيث قال الإمام الباقر عليه السلام: “لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ”، وعن الصادق عليه السلام قال: “سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا وَ اللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ التَّقِيَّةِ يَا حَبِيبُ إِنَّهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ تَقِيَّةٌ رَفَعَهُ اللَّهُ يَا حَبِيبُ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَقِيَّةٌ وَضَعَهُ اللَّهُ”.
إلا أن الشيعة انقسموا تجاه هذا المفهوم إلى أقسام ثلاث:
القسم الأول: هم من فهم التقية بمفهوم سلبي وهو الإحجام، فيلس عليه إلا أن يجلس في الدهليز ولا يتدخل في شيء من شؤون الحياة العامّة، وهذا المفهوم هو السائد إلى يومنا الحاضر ـ ولشديد الأسف ـ فتجد العزلة تحت هذا العنوان، فلكي أحافظ على ديني أحاول الهروب من السلطان، وحسب المثل العراقي “الباب التي يأتيك منها الريح.. اغلقها واستريح!”.
وهؤلاء إنما يفسرون التقية بهذا المعنى السلبي كي يبررون أفعالهم، فإنهم يرون أن المحافظة على الإيمان إنما يكون بإخفاء الدين، بالرغم من أن الشواهد التاريخية تثبت خلاف ذلك.
فإن التقية السلبية التي مارسها أصحاب الديانات السابقة سبّب أنحرافهم عن مبدأهم كما حدث في بني اسرائيل بعد أن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكذلك المسيح حين ابتدعوا الرهبانية وقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى قصتهما في سورة الحديد.
القسم الثاني: من عرف أن للتقية مفهوم إيجابي واسع، وقد استعمل الأئمة عليهم السلام وأصحابهم ذلك بأفضل صورة، والتي لم يظهر لنا منها سوى الشذر اليسير.
هناك من عرف أن للتقية مفهوم إيجابي واسع، وقد استعمل الأئمة عليهم السلام وأصحابهم ذلك بأفضل صورة، والتي لم يظهر لنا منها سوى الشذر اليسير
فعلى سبيل المثال إنظر إلى ما كان عليه علي بن يقطين، وعلي بن سويد وغيرهم من الدائرة الأولى في السلطة العباسية وكيف يصل بن يقطين هذا الشيعي الموالي، صلب الإيمان، يبلغ هذه المرتبة من القرب من رأس الهرم.
لا ريب أن ذلك لا يتم بين اليوم والليلة، وإنما يحتاج إلى استعمال التقية لفترة طويلة وبمفهومها الواسع، وذلك أن يتخذ المؤمن الكافر ولياً كي يتقرب إليه ويكسب ثقته من أجل أن يستفيد من هذا الموقع لأجل ذلك المبدأ الذي يخفيه في قلبه.
ومثل بن يقطين العشرات ففي زمن هارون اللارشيد فقط كان للإمام العشرات من هؤلاء في أعلى المناصب وهذا ما شل حركة السلطة لضرب حركة الشيعة آنذاك فإن تحرك السلطة كان مكشوفاً للشيعة بصورة كاملة عبر هؤلاء.
هذا الفهم يجعل من التقية محطة انطلاق، أي أنه يفتح باب الحركة بشكل واسع ولعل هذا هو المفهوم من قوله عليه السلام: “وَ اللَّهِ مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْخَبْءِ قُلْتُ وَ مَا الْخَبْءُ قَالَ التَّقِيَّةُ”.
القسم الثالث: وهم الذين أحجموا عن التقية، وأذاعوا الأسرار ظناً منهم أن الأمور أصبحت تجري لصالحهم، وهذا ما نجده عن البعض في زماننا أيضاً، حيث لا يلاحظ الظروف بكاملها، فيذيع ما لا يجب إذاعته ويتسبب في خسائر كبيرة جداً على المستوى العام.
وهذا بالضبط هو ما حدث مع الإمام الكاظم عليه السلام، حيث أذاع البعض أسرار الحركة مما جعل السلطة الطاغية تعد العدة للإنقضاض على هذه الحركة عبر أحد طريقين، إما القضاء على الخلايا الحركية والأخذ بالظنة والقتل بالتهمة، وإما جعل قيادة هذه الحركة تحت النظر، فاختارت السلطة الثاني وسجنت الإمام روحي له الفداء.
فغضب الله على الشيعة كان لمخالفتهم لأوامر القيادة من إبقاء الحركة سراً وعدم إذاتها فخير الله الإمام موسى بن جعفر بين أن يكون هو المسجون والمقتول ظلماً وبين أن تكون الشيعة هم الضحايا، فاختار الإمام ذلك ووقاهم بنفسه، ليس حفاظاً عليهم كافراد بل حفاظاً على هذا المشروع الإلهي الذي يجب أن يتكامل حتى قيام الحق بإرادة إلهية على يد وليه الأعظم الإمام الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف.