🔶 مقدمة اجتماعية
المجتمع هو صاحب المصلحة الأولى والعليا في كل رسالات السماء، وذلك لأنها جميعها نزلت إلى هذا البشر لإنقاذه من عبادة الطاغوت، وإخراجه من الظلمات والجهل والتخلف، إلى النور والعلم والتقدم، فكل رسالات السماء لها صبغة اجتماعية، وتهدف إلى تطهير المجتمع من أمراضه المستشرية والتي تُسبب الشقاء له مجموعاً وأفراداً على حدٍّ سواء.
والمجتمع الإسلامي هو من أرقى المجتمعات البشرية منذ أبيهم آدم، عليه السلام، وحتى عصرنا الحاضر حيث الحضارة الرقمية العملاقة، والتطور العلمي الباهر، والتقدم التكنولوجي اللامع، ولكن لماذا المجتمعات الإسلامية اليوم تُعاني من كل أنواع وأشكال التَّخلف، والتحجر والظلم والجور والاقتتال وسفك أنهاراً من الدَّم الحرام؟
🔶المجتمع في العصر العباسي
والمجتمع الإسلامي في عصر الإمام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، كان شبيهاً بهذه الأيام حيث قامت ثورة العباسيين باسم الرضا من آل محمد، صلى الله عليه وآله، وكان الإمام الصادق، عليه السلام، هو المقصود ولذا أرسل له أبو سلمة الخلال رسالة الولاء قبل أي أحد، ولكن الإمام الصادق، عليه السلام، رفضها لعلمه بأن الرجل لم يكن من رجاله وليس مخلصاً في دعوته فأحرق رسالته دون أن يقرأها حتى الرسول الحامل لها استغرب كيف لرجل تأتيه الخلافة والحكم وفيرفضه والإمام موسى الكاظم، عليه السلام، هو وريث والده طبعاً، ووضعاً، ورسالة.
كان الشغل الشاغل للإمام موسى الكاظم، عليه السلام، في فترة ولايته وإمامته ينصبُّ فيبإعادة التوازن للمجتمع بتربيته له وإشاعة الروح الدينية والروحية والخلاقية فيه
وكانت فتنة كبرى هلك فيها الكثير من الناس ولذا كان خلفاء بني العباس الأوائل يُسمون بالسَّفاح، والمنصور، فكان الصراع على الكرسي والدنيا على أشده بين بني أمية المتساقطين وبين بني العباس المتصاعدين على الكرسي أنهاراً من الدماء من هذه الأمة، هذا عدا عن هدر الكثير من الأموال والامكانات المادية والمعنوية التي كانت ضمانة لقوة الأمة ومنعتها ضد الأعداء فضعفت وتضعضعت بسبب تلك السياسات الظالمة.
والإمام موسى، عليه السلام، عاش كل تلك التفاصيل وهو العالم الخبير بأهداف وسياسات بني العباس تجاه البيت النبوي خاصة، والأمة الإسلامية عامة، فهم يُريدونهم لخدمتهم واستلاب حقوقهم والسيطرة على أموالهم ونفوسهم، وهيهات أن يسكت الإمام موسى، عليه السلام، وهو الذي كانت تنقطع إليه الأعناق لما كان يتمتَّع به من مكانة عظيمة بعد والده الإمام الصادق، عليه السلام، الذي كان بحق مالئ الدنيا وشاغل الناس، ولذا راح يتحدَّى السلطة العباسية جهاراً نهاراً لأنه رأى منهم محاولة اللعب على وتر الشَّرعية وأنهم أولى برسول الله، صلى الله عليه وآله، من غيرهم ويقصدون الأئمة من آل محمد، صلى الله عليه وآله، ورأسهم الإمام موسى، عليه السلام.
فراح يفضحهم ويُكذِّب أحاديثهم، ويُفنِّدها في وجوههم العابسة القمطريرة، وكم سجَّل التاريخ للإمام الكاظم، عليه السلام، من مواقف كهذه، فقد قيل: لما دخل هارون الرشيد المدينة، توجه لزيارة النبي، صلى الله عليه وآله، ومعه الناس، فتقدَّم إلى قبر النبي، صلى الله عليه وآله، فقال: “السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن العم”، مفتخراً بذلك على غيره.
فتقدم أبو الحسن موسى بن جعفر، عليه السلام، إلى القبر فقال: “السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبة”، فتغيَّر وجه الرشيد وتبيَّن الغيظ فيه.
وكم كان للإمام موسى الكاظم، عليه السلام، مع حكام بني العباس من مواقف مشابهة في هذا السِّياق الحساس جداً لأن بني العباس غير بني أمية، فهم أبناء العمِّ ويدَّعون حق الوراثة لرسول الله، صلى الله عليه وآله، دون ابن العم ويقصدون به العلويين وأئمة المسلمين، عليه السلام،، ولذا ما كان للإمام موسى، عليه السلام، أن يسكت عن ذلك أبداً، فواجههم بالحقيقة، وجابههم بها حتى بهتهم فضيَّقوا عليه وراحوا ينقلوبنه من سجن إلى سجن، ومن طامورة إلى أخرى حتى قضى نحبه في سجن السندي بن شاهك في بغداد بعد أكثر من أربعة عشر سنة من السجن كما في بعض الروايات المعروفة.
🔶التربية الأخلاقية للمجتمع
في تلك الظروف الحرجة والحساسة وحيث الحروب والنزاعات والفوضى والقتال يجعل الدولة تهتز، والمجتمع يضطرب ويكثر فيه المشاكل والجرائم، والتعدِّي، والسلب، والنهب، وضعف الوازع الدِّيني، والإيماني في الأمة والإمام هو أولى الناس بإعادة التوازن لهذا المجتمع بتربيته له وإشاعة الروح الدينية والروحية والخلاقية فيه، فيكون الرادع الدِّيني، والوازع الأخلاقي من أهم الأسباب في حفظ المجتمع من التحلل والتفسخ والجريمة.
فكان الشغل الشاغل للإمام موسى الكاظم، عليه السلام، في فترة ولايته وإمامته ينصبُّ في هذا الاتجاه في الغالب وذلك حين تسنح له الفرصة ويكون خارج السجن ومن أجمل ما ترك الإمام الكاظم، عليه السلام، في هذا المجال وصيته الرائعة جداً لهشام بن الحكم، وسنأخذ بعض الجوانب التربوية والأخلاقية فيها لنعرف كيف كان ينظر الإمام، عليه السلام، لشيعته في الأمة، وما يُريد منهم، وكيف تكون تربيتهم الاجتماعية، ووعيهم الدِّيني، وحياتهم الروحية والإيمانية؟
🔶 التأكيد على العقل ودوره
والوصية كانت في الحقيقة وصية العقل، والحكمة في الحياة، ولكن العقل بالمفهوم الشعبي العام هو المخ والكتلة الدِّهنية التي تتواجد في الرأس، فهل هذا هو العقل حقيقة؟ أبداً العقل نور من الله روحاني يهبه الله للإنسان ليعبد الله ويُطيعه، ويكتسب به الجنان، وأما الشيطنة والنكراء كالتي تكون في الدُّهاة كمعاوية وابن العاص فهي ذكاء وليست من العقل في شيء، كما في كلمة الإمام الصادق، عليه السلام، .
فأفضل شيء في الإنسان هو العقل، وله جنود سبعون، وتمامه يصفه الإمام الكاظم، عليه السلام، لهشام فيقول له: “يَا هِشَامُ كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، يَقُولُ: مَا عُبِدَ اَللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ اَلْعَقْلِ، وَمَا تَمَّ عَقْلُ اِمْرِئٍ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ شَتَّى؛ اَلْكُفْرُ وَاَلشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونَانِ وَاَلرُّشْدُ وَاَلْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولاَنِ وَفَضْلُ مَالِهِ مَبْذُولٌ وَفَضْلُ قَوْلِهِ مَكْفُوفٌ وَنَصِيبُهُ مِنَ اَلدُّنْيَا اَلْقُوتُ لاَ يَشْبَعُ مِنَ اَلْعِلْمِ دَهْرَهُ اَلذُّلُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَعَ اَللَّهِ مِنَ اَلْعِزِّ مَعَ غَيْرِهِ وَاَلتَّوَاضُعُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اَلشَّرَفِ يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ اَلْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَسْتَقِلُّ كَثِيرَ اَلْمَعْرُوفِ مِنْ نَفْسِهِ وَيَرَى اَلنَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْراً مِنْهُ، وَأَنَّهُ شَرُّهُمْ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ تَمَامُ اَلْأَمْرِ”.
فلو تأملنا في هذه الفقرات نراها تُعالج أمهات المسائل الأخلاقة التي يجب أن يكون عليها المجتمع الإسلامي، فهي بحق دستور راقي جداً في التعاملات الأخلاقية الاجتماعية.
🔶 آفة الكذب والدَّجل
ثم يتبع ذلك بوصية أخرى هي جماع الفضائل وهي الصدق، لأن عسكها الكذب هو مجمع الرذائل، فقال له، عليه السلام، : “يَا هِشَامُ إِنَّ اَلْعَاقِلَ لاَ يَكْذِبُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَوَاهُ”، فالكذب آفة الآفات الاجتماعية، ولذا يقول العسكري، عليه السلام، قال: “جُعلت الخبائث في بيت وجعل مفتاحه الكذب”، وفي هذا العصر صار الكذب صنعة، وعملاً رائجاً لا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي، فتراها ساحة للكذب والدَّجل، وإشاعة ذلك للأسف الشديد وأكثر ما نجد كذباً على أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام،، فتكاد لا يمر عليك يوم إلا وتصلك كلمات مصفطة وعبارات منمَّقة ومروَّسة أو مذيلة بعلي بن أبي طالب، عليه السلام،، وعلي بن أبي طالب، عليه السلام، لم يقلها أبداً، ولذا صدق مَنْ سمَّى هذا العصر الرقمي وثورة الاتصالات بعصر الدَّجال، أو عصر الدَّجل لكثرة الكذب فيه.
أفضل شيء في الإنسان هو العقل، وله جنود سبعون، وتمامه يصفه الإمام الكاظم، عليه السلام، لهشام فيقول له: “يَا هِشَامُ كَانَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، يَقُولُ: مَا عُبِدَ اَللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ اَلْعَقْلِ
ويكثر الكذب عادة في المجتمعات المهزوزة، والمضطربة، والتي يشيع فيها الخوف من السلطات، والحكام الظالمين فأناس تخاف منهم فتكذب لتتخلَّص من عقوبتهم، وآخرين يكذبون تقرُّباً إليهم ليلعقوا من موائدهم الحرام كما كان شيخ المضيرة المعروف.
فالمجتمع الإسلامي في عصر الإمام الكاظم، عليه السلام، كان يُعاني من هذه الآفة الخطيرة فعلاً فحاول الإمام بيان خطورتها والتحذير منها، بهذه الوصية التربوية الراقية.
🔶 التذكير بالآخرة والقيامة
ومن القضايا التي تجعل الجريمة والانتهاكات الأخلاقية تكثر في الأمة هي نسيان الآخرة، والثواب والعقاب، لأنه “مَنْ أمِنَ العقوبة أساء الأدب”، كما يُقال، ومن أكبر الرَّوادع في الدِّين الإسلامي تذكُّر الآخرة والحساب الدَّقيق فيها، فقال الإمام، عليه السلام : “يَا هِشَامُ لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ مُرُوَّةَ لَهُ، وَلاَ مُرُوَّةَ لِمَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ، وَإِنَّ أَعْظَمَ اَلنَّاسِ قَدْراً اَلَّذِي لاَ يَرَى اَلدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطَراً أَمَا إِنَّ أَبْدَانَكُمْ لَيْسَ لَهَا ثَمَنٌ إِلاَّ اَلْجَنَّةُ فَلاَ تَبِيعُوهَا بِغَيْرِهَا”
والعجيب أن الإمام، عليه السلام، ينسب الدِّين للمروأة، والمروأة للعقل، وأعظم ذلك كله أن يبيع الإنسان نفسه بحقها وثمنها الواقعي وهو الجنة، وكل ثمن غير ذلك فهو بيع للنفس بالثَّمن البخس، فكيف إذا كان قد اشترى الجحيم والنيران الدائمة والعذاب الأبدي فيها؟
🔶 قاعدة إعلامية وسياسية
وفي وصية الإمام، عليه السلام، قاعدة راقية جداً، ومفيدة للإعلام والسياسة يقول فيها: “يَا هِشَامُ إِنَّ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، كَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ عَلاَمَةِ اَلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ يُجِيبُ إِذَا سُئِلَ وَ يَنْطِقُ إِذَا عَجَزَ اَلْقَوْمُ عَنِ اَلْكَلاَمِ وَ يُشِيرُ بِالرَّأْيِ اَلَّذِي يَكُونُ فِيهِ صَلاَحُ أَهْلِهِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ اَلْخِصَالِ اَلثَّلاَثِ شَيْءٌ فَهُوَ أَحْمَقُ”.
عظم الله أجركم يا مؤمنين بهذا الإمام الهمام المظلوم العظيم المسموم، عليه السلام.