تعد المعارضة للسلطة أو النظام الحاكم أمراً صحيا لابد من وجوده في جميع الانظمة السياسية في مختلف بلدان العالم، إذ أن المعارضة تكون الرقيب لاعمال السلطة، فهي تصوّب، وتصحح وتنقد اداء السلطة لتقديم الاداء الافضل للناس وللبلد.
وأمير المؤمنين، عليه السلام، لجأ الى المعارضة مع أحقيته بالخلافة والسلطة من غيره، وقد ساندته السيدة الزهراء، عليها السلام، في هذه المعارضة الشرسة، لكن غصب حقه، والهجوم على داره وحرقه، وقتل وغير، لم يُخرج أمير المؤمنين، عن الحق، والصواب، ولم يخالف الأخلاق، ولم يتجاوز القيم والمبادئ مع من كان يعارضه، وكان ذلك طيلة خمس وعشرين سنة.
اليوم تلجأ بعض المعارضات السياسية الى استخدام كافة الوسائل والاساليب القذرة لاسقاط وتسقيط خصومها في السلطة، ولكن في نظر أمير المؤمنين، عليه السلام، وضمن القاعدة الإسلامية التي اتخذها، عليه السلام، منهجا له طوال حياته، “الغاية لا تبرر الوسيلة”، وبخلاف هذا نجد بعض المعارضات في زماننا تسلك السبل الملتوية البعيدة عن القيم والأخلاق ـ فمثلا ـ وحتى يتم إهانة شخص في السلطة او مسؤول ما فيها، يتم نشر مقاطع مخلّة بالآدب، او خطف أحد من افراد اسرته، وقد تصل في بعض الحالات الى القتل!
هذه الاساليب وغيرها لم يلجأ إليها أمير المؤمنين، عليه السلام، بل إنه بقي معارضا للسلطة القائمة آنذاك ولكن معارضته كانت شريفة، فحين كان ابو بكر يطلب الإمام علي، عليه السلام، لم يكن الامام ليتوانى لحظة، في ارشاده وتوجيهه لما فيه المصلحة العليا للأمة الأسلامية.
فكم من معضلة حلّها أمير المؤمنين، عليه السلام، في عهد أبي بكر، حتى قال أبو بكر: “لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن”، ولا يخفى المقولة الشهير لعمر بن الخطاب، التي لا تخفى إلا على الحيات لأنها لا تسمع، فدائما ما كان يردد: “لولا علي لهلك عمر”.
لم يخرج أمير المؤمنين، عن الحق، والصواب، ولم يخالف الأخلاق، ولم يتجاوز القيم والمبادئ مع من كان يعارضه، وكان ذلك طيلة خمس وعشرين سنة
عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: أراد قوم على عهد أبي بكر أن يبنوا مسجداً بساحل عدن، فكان كلما فرغوا من بنائه سقط، فعادوا إليه. فسألوه، فخطب، وسأل الناس وناشدهم: إن كان عند أحد منكم علم هذا فليقل.
فقال أمير المؤمنين، عليه السلام: “احتفروا في ميمنته وميسرته في القبلة، فإنه يظهر لكم قبران مكتوب عليهما: “أنا رضوى، وأختي حباء، متنا لا نشرك بالله العزيز الجبار وهما مجردتان، فاغسلوهما، وكفنوهما، وصلوا عليهما، وادفنوهما، ثم ابنوا مسجدكم، فإنه يقوم بناؤه”. ففعلوا ذلك، فكان كما قال، عليه السلام.
وفي حادثة أخرى، أن أبا بكر أراد أن يقيم الحد على رجل شرب الخمر، فقال الرجل: إني شربتها ولا علم لي بتحريمها. فارتج عليه، ولم يعلم وجه القضاء فيه.
فأرسل إلى علي، عليه السلام، يسأله عن ذلك.
فقال، أمير المؤمنين: مُرْ نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار، وينشدانهم: هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم، أو أخبره بذلك عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، فإن شهد بذلك رجلان منهم، فأقم الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك فاستتبه، وخل سبيله”.
ففعل ذلك أبو بكر، فلم يشهد عليه أحد بذلك، وكان الرجل صادقاً في مقاله، فاستتابه، وخلّى سبيله.
- عمر يستشير أمير المؤمنين عليه السلام
“اراد عمر بن الخطاب الخروج الى قتال الروم، ولكن أمير المؤمنين، عليه السلام، اقنعه أن في الجيوش التي كان قد أعدها أبو بكر كفاية، وقد حقق قوادها نجاحا كبيراً، وكل ما يحتاج إليه هؤلاء القواد هو المدد من عمر.
ولكن عمر رأى أن مسيره لا مندوحة عنه ليقود المجاهدين بنفسه، فيثير فيهم الحماسة، ويحقق الله به النصر المبين، فقال له الإمام علي، عليه السلام: إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب ولا تكن للمسلمين كانفة ( أي كنف) دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلا مجربا واحفز معه أهل البلاد النصيحة فإن اظهره الله فذاك ما تحب وان تكن الاخرى كنتَ ردءاً للناس ومثابة للمسلمين.
فولى عمر أبا عبيدة على الجيش، وفتحت جيوش المسلمين أرض العراق والشام كلها، ومصر، وهرب هرقل الى القسطنطينية ونظر الى آخر معاقله في سوريا فبكى وهو يقول: سلام عليك سورية سلام لا اجتماع بعده”.(السيد هادي المدرسي؛ أخلاقيات أمير المؤمنين).
صحيح؛ أن أمير المؤمنين، عليه السلام، كان في صف المعارضة، وكان لا يرضى بكثير من الامور الداخلية التي تصدر عن الخليفة، إلا أن الأمر حينما كان يرتبط بالإسلام ككل، لم يكن أمير المؤمنين ليتوانى لحظة واحدة في تسديد الخليفة ليضمن سلامة توجه الدولة العام.
ولهذا لم يكن الإمام علي، عليه السلام، من الذي يدعون الحاكم غيظا لتزداد اخطاؤه لتزيد النقمة عليه، وبهذا تكسب المعارضة مطامحها، فأمير المؤمنين، عليه السلام، لم يكن ينظر الى السلطة على أنها كرسي يجلب أن يجلس عليها مهما كلف الأمر، مثل كثير من المعارضين الذي لا تهمهم المصلحة العامة للدولة أو الأمة.
حتى المسائل الشخصية، فإن الإمام علي، عليه السلام، كان لا يغش من استنصحه من الخلفاء، فهو إذا كان يعارض فلم يكن لحبه أو بغضه الشخصي إذ لم تكن لمعارضته هذه الصفة لا في كلياتها، ولا جزئياتها
“وحتى المسائل الشخصية، فإن الإمام علي، عليه السلام، كان لا يغش من استنصحه من الخلفاء، فهو إذا كان يعارض فلم يكن لحبه أو بغضه الشخصي إذ لم تكن لمعارضته هذه الصفة لا في كلياتها، ولا جزئياتها.
من ذلك ما روي؛ أن عمر بن الخطاب أراد ان يتزوج عاتكة بنت زيد، بعد أن قُتل عنها زوجها عبد الله بن أبي بكر في إحدى المعارك فقالت له: قد كان عبد الله أعطاني حديقة على أن لا أتزوج بعده.
فقال لها عمر: استفتي علي بن أبي طالب. ولما استفته عليه السلام، قال لها الإمام: ردّي الحديقة على أهله وتزوجي عمر. وكانت عاتكة كما وصفها معاصروها: امرأة ذات جمال، وكمال، وتمام في علقها ومنظرها، وكانت حسناء بارعة”.”.(السيد هادي المدرسي؛ أخلاقيات أمير المؤمنين).
- أمير المؤمنين يحذر عثمان من الثورة
أما عهد عثمان بن عفان وبعد أن وصل مظاهر التذمر ذروته من عامة المسلمين، نتيجة تصرفات بني أمية من ولاة عثمان، ذهب أمير المؤمنين، عليه السلام، الى عثمان ونصحه، محذراُ إياه من ولاته الذين استخدموا عثمان وسيلة للوصول الى ملذاتهم وشهواتهم.
فأمير المؤمنين، عليه السلام، كان يحذر عثمان من ثورة قد تحدث ضده، ومن كلام له، لما اجتمع الناس إليه وشكوا ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم، فدخل، عليه السلام على عثمان فقال:
“إِنَّ النَّاسَ وَرَائي، وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ، وَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، كَمَا صَحِبْنَا. وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَلا ابْنُ الْـخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْـحَقِّ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالَا.
فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ ـ وَاللهِ ـ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمىً، وَلا تُعَلّمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الْطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ، وَإِنَّ أَعْلاَمَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ.
فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَـهَا أَعْلاَمٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ، لَـهَا أَعْلاَمٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً. وَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يَقُولُ: “يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْـجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى، ثُمَّ يُرْتَبَطُ فِي قَعْرِهَا”.
وَإِنّي أَنْشُدُكَ اللهَ أنْ تَكُونَ إِمَامَ هذِهِ الأُمَّةِ الْـمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هذِهِ الأُمَّـةِ إِمَـامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا، وَيَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا، فَلاَ يُبْصِرُونَ الْـحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً، وَيَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلاَ تَكُونَنَّ لِـمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلاَلَ السِّنِّ وَتَقَضِّي الْعُمُرِ.
فَقَالَ لَهُ عُثْـمَانُ: كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِن مَظَالِـمِهِمْ، فَقال عليه السلام: مَا كَانَ بِالْـمَدِينَةِ فَلاَ أَجَلَ فِيهِ، وَمَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ.
هكذا كانت المعارضة الحضارية للإمام علي، عليه السلام، لمن خالفوه وأقصوه عن حقه الشرعي، فلم يبخل عليهم بنصيحة لا في أمورهم الشخصية، ولا في أمور الأمة الإسلامية التي كان ينبري إليها بدافع المسؤولية الدينية والأخلاقية الملاقاة على عاتقه.