- مقدمة
الإمام عَلَمٌ لا يخفى، ونور متألق لا يُطفأ.
فهو الذي بوجوده يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويحفظ أهل الأرض أن تسيخ بهم لأنه الحجة الذي لو غاب عنها لحظة لساخت بأهلها، كما في رواية الإمام الرضا، عليه السلام، فوجود الإمام خير كله، وبركة، ونور على أهل الأرض قاطبة، ومحبيه وشيعته خاصة، لأنهم أهل الخاصَّة من هذا الخلق المتعوس، والبشر المنكوس على عقبيه، عبَّاد الشيطان والسُّلطان.
والإمام علي الهادي، عليه السلام، الذي ولد واستشهد في رجب المرجب، يجب علينا أن نقف طويلاً في بعض فصول حياته المباركة لأنها ذات أثر في الأمة وفينا بشكل خاص حتى اليوم، بما قام به من أعمال عظيمة، وأسسه من أسس قامت عليها هذه الطائفة المحقة.
عاش الإمام الهادي، عليه السلام، في تلك الفترة السياسية التي كانت من أعقد فترات التاريخ من حيث الظلم والقسوة والعسف، الذي كان يمارسه حكام بني العباس بحقه
لا سيما تلك الأعمال التي أعطت للشيعة شخصيتهم، وميزتهم عن غيرهم، بهذا الرباط الرائع بأئمتهم، عليهم السلام، بالأدعية والزيارات العظيمة التي ما زلنا نستلهم منها الولاء، ونستضيء بأنوارها في الزيارات، كالزيارة الجامعة الكبيرة التي هي كنز من كنوز آل محمد، صلى الله عليه وآله، حقاً، وكذلك زيارة الغدير الكبيرة المشهورة التي أعطت المعاني الراقية لتلك الحادثة التاريخية التي حاربتها شياطين الإنس والجن ليمحوها من التاريخ، إلا أن أحد أهم أسباب رسوخها وبقاءها هي تلك الزيارة الراقية، وكذلك زيارة غريب الغرباء أنيس النفوس المدفون في أرض طوس إلى جوار أشقى بني العباس هارون، وغيرها من الأدعية التي جعلت الشيعة تدور حول مراقد أئمتهم كالفراشات حول النُّور.
- سماء الأمة الملبَّدة
عاش الإمام الهادي، عليه السلام، في تلك الفترة السياسية التي كانت من أعقد فترات التاريخ من حيث الظلم والقسوة والعسف، الذي كان يمارسه حكام بني العباس بحقه، لأنه تسلم القيادة والإمامة من أبيه الشَّاب الإمام محمد الجواد، عليه السلام، وهو في عمر الطفولة كما يُسمونه، فكان لا يتجاوز الثمانية سنوات، ولكن طالت فترة قيادته الحكيمة لدفَّة القيادة والإمامة لأكثر من أربعة وثلاثين عاماً حكم فيها ستة من أشد الحكام النَّواصب العباسية، لاسيما المتوكل على الشيطان الذي طال حكمه، ستة عشر سنة عجافاً جاءت بعد خمس سنوات من الواثق، وتسعة من المعتصم بن هارون، فعمل هؤلاء الأشقياء كل ما استطاعوا لإطفاء نور الإمام علي الهادي، عليه السلام، الذي كان يعيش كنجم متألق في سماء مدينة جده رسول الله، صلى الله عليه وآله.
- الإمام الهادي عليه السلام في بغداد
لم يستطع الصبر على ذلك حكّام بني العباس فاستقدموا الإمام الهادي، عليه السلام، من مدينة جدّه إلى بغداد، قال اليعقوبي: شخص علي بن محمد بن الرِّضا مع يحيى بن هرثمة حتّى صار إلى موضع قُبيل بغداد يُقال له الياسرية، فنزل يحيى هناك (وأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الخزاعي مولاهم والي بغداد بالخبر) فركب إسحاق بن إبراهيم يتلقاه، ورأى اجتماع الناس لرؤيته وتشوقهم إليه! فأقام إلى الليل، ثمّ دخل به في الليل إلى بغداد وأقام بها بعض تلك الليلة ثمّ نفذ إلى سامرّاء).
ولك أن تتعجَّب من هذه الرِّواية وكيف علم الناس بحضور الإمام الهادي، عليه السلام، إلى بغداد، ووصولهم واجتماعهم إليه لرؤيته قبل الوالي حتى، وهذا ما يُؤكده تصرُّف الوالي وإدخال الإمام إلى بغداد سراً وفي الليل، ولا غرو في ذلك فهذا يؤكد ما قاله جده الإمام موسى الكاظم، عليه السلام، لهارون الرَّشيد حين قال له: “أنت إمام الجسوم وأما أنا فإمام القلوب والأرواح”.
وأما خبر المسعودي فهو أشد وطأة لأنه يُعطي صورة عن مكانة الإمام في الأمة، وحتى عند رجال السُّلطة العباسية الغاشمة، فعن يحيى بن هرثمة قال: قدمت به بغداد على إسحاق بن إبراهيم الطاهري (الخزاعي) وكان والياً على بغداد فقال لي: “يا يحيى إنّ هذا الرَّجل قد ولده رسول اللّه، والمتوكل مَنْ تعلم فإن حرّضته عليه قتله وكان خصمك رسول اللّه يوم القيامة”.
قال المسعودي: مُنع شيعة آل أبي طالب من زيارة الغريّ من الكوفة، وقبر الحسين، عليه السلام، ومن حضورهم في هذه المشاهد، كان الأمر بذلك من المتوكل سنة (236 هـ) وأمر قائده المعروف بالدَّيزج بالسَّير إلى قبر الحسين بن علي، عليه السلام، وهدمه وإزالة أثره ومحو أرضه”
قلت له: “واللّه ما وقع عيني منه إلاّ على كل أمر جميل”، فالقوم يعلمون مَنْ يكون الإمام من حيث النَّسب والسَّبب، فهو ابن رسول الله، والمتوكل ناصبي غشوم، وحاكم ظلوم، يقتل على التُّهمة، والظِّنة ولا يرتدع عن غيِّه، ولا يتورَّع عن قتل الإمام، عليه السلام.
- الإمام في سامراء
لم يطل مكوث الإمام الهادي، عليه السلام، في بغداد لأن العاصمة صارت سامراء مدينة الجند التي اختطها المعتصم حين خاصمه أهل بغداد، وهددوه بسهام الليل، فتوجه إلى تلك المنطقة الجميلة الغنَّاء التي كانت تغفو على كتف دجلة الخير، فسموها سرُّ من رأى، لجمالها يقول يحيى أيضاً، ثمّ سرتُ به إلى سامراء فبدأت بوصيف التركي (حاجب المتوكل) فأخبرته بوصوله، فقال لي: “واللّه لئن سقط منه شعرة لا يكون المطالَب بها غيري”. ثمّ أدخلني على المتوكل.
فلمّا دخلتُ على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته، وسلامة طريقته، وورعه، وزهادته وأنِّي فتّشتُ داره فلم أجد فيها غير المصاحف، وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه، ولكن الرواية التاريخية تؤكد أن المتوكل الخبيث أراد أن ينتقص من مقام ومكانة الإمام، عليه السلام،، فلم يأذن له بالدُّخول عليه، بل أمر أن يُنزلوه في خان الصَّعاليك، وهو أشبه بسجن تافه، قال الشيخ المفيد: لمّا وصل يحيى بن هرثمة بأبي الحسن الهادي، عليه السلام، إلى سامرّاء تقدم المتوكل بأن يُحجب عنه، ويُنزل في خان يُعرف بخان الصعاليك”.
وروى الشيخ الكليني عن صالح بن سعيد(الطالقاني) قال: “دخلت على أبي الحسن، عليه السلام، (في خان الصعاليك) فقلت له: جُعلت فداك في كل الأُمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك.
فقال لي: يا ابن سعيد أنت هاهنا ثمّ أومأ بيده وقال: انظر فنظرتُ، فإذا أنا بروضات آنقات، وجنّات باسرات، فيهنّ خيرات عطرات، وولدان كأنّهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار وظباء، وأنهار تفور فحار بصري وحسرت عيني.
فقال لي: حيث كنا فهذا لنا عتيد لسنا في خان الصعاليك”
ثمّ أمر المتوكل رجاله بأن يُفردوا داراً له، عليه السلام، فأُفردت له داراً في السوق فانتقل إليها، وأقام مدة مُقامه بسامرّاء، فكان تحت أنظار العسكر والجند، وحراسة مشددة من قبلهم يعدُّون عليه أنفاسه، ويمنعون الناس من الاتصال به، أو الوصول إلى كنفه وبيته، فأوجد الإمام نظام الوكلاء لتحقيق هذا الغرض الرِّسالي، والتنمية الاجتماعية، فكان يتواصل مع الأمة وهي تتواصل معه عن طريق أولئك الوكلاء الكرام فيوصلون إليه الحقوق ويأخذون من الأحكام والعلوم وما يحتاجونه.
- ظلم وظلام المتوكل العباسي
لم يُحدِّث التاريخ العباسي عن شخص كان أشد نصباً وعداءً لأهل البيت الأطهار، عليه السلام، وأئمة المسلمين كالمتوكل العباسي، الذي له قصص عجيبة وغريبة ويكفيك أنه تأسَّف لم يحضر في كربلاء لقتال الإمام الحسين، عليه السلام، فراح يُحاربه في قبره، وزيارته، وشيعته، وقالوا: بَلَغَ المتوكّل أنّ أهل السَّواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين، عليه السلام، فيصير إلى قبره خلق كثير منهم”، فكان يخاف منهم فكتب إلى الإمام الهادي، عليه السلام، رسالة لطيفة يستقدمه بها إلى سامراء، ليأمن من الوثبة التي كان يخافها من هؤلاء الشيعة الذين يجتمعون حول قبر الإمام الحسين، عليه السلام، ونتيجة لهذا الخوف منه أرسل إليه جلاوزته ليحرثوه ويزرعوه ليمحو أثره من فوق الأرض.
قال الطبري: “في سنة (236 هـ) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُحرث ويُبذّر ويُسقى موضع قبره، وأن يُمنع الناس من إتيانه.. وذُكر أنّ عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: مَنْ وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام بعثنا به إلى السجن المطبق، وحُرث ذلك الموضع وزُرع ما حواليه، وهرب الناس”.
وقال المسعودي: مُنع شيعة آل أبي طالب من زيارة الغريّ من الكوفة، وقبر الحسين، عليه السلام، ومن حضورهم في هذه المشاهد، كان الأمر بذلك من المتوكل سنة (236 هـ) وأمر قائده المعروف بالدَّيزج بالسَّير إلى قبر الحسين بن علي، عليه السلام، وهدمه وإزالة أثره ومحو أرضه”.
- الإمام الهادي عليه السلام النور المتألق
تلك هي الأجواء الملبَّدة بالحق، والبغض، والضغينة على آل محمد، صلى الله عليه وآله، وسيدهم في حينها الإمام علي الهادي، عليه السلام، ولذا عندما فعل كل ذلك المتوكل ظنَّ أنه استراح بحرث قبر سيد الشهداء، عليه السلام، وزرعه، ومنع الناس من زيارته، واستقدام الإمام الهادي، عليه السلام، وسجنه في مدينة العسكر سامراء ليكون تحت أنظاره المباشرة، وراح يُضيِّق عليه لمنعه من أداء رسالته في الأمة، ومنع الناس من الوصول إلى سيدهم وإمامهم، ولكن الإمام الهادي، عليه السلام، كان هو النَّجم الذي يأبى الأفول، من سماء الأمة الإسلامية، وبقي النور المتألق في هذه الحياة، بما قام به من أعمال.