قال الامام الصادق عليه السلام: “إِذَا مَاتَ اَلْعَالِمُ ثُلِمَ فِي اَلْإِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ لاَ تُسَدُّ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ”.
العزاء مرفوع لصاحب الأمر الإمام الحجة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولمراجعنا العظام، وعلمائنا الأعلام، وشيعة أهل البيت عليهم السلام، وجميع المسلمين والشرفاء في العالم بوفاة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني رضوان الله تعالى عليه، وحشره مع محمد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وألهم أهله وذويه ومقلديه ومحبيه الصبر والسلوان وآجرهم بمصابهم فيه ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
الحديث عن العلماء حديث عن الحياة الحقيقية، حديث عن النور، حديث عن الضياء والمعرفة، والحديث عن العلماء الرساليين حديث في عمق الحياة الحقيقية المليئة بالعطاء والتفاني.
والحديث عن المرحوم الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني حديث عن عالم جليل كبير القدر والشأن، صاحب علم ومعرفة وهدى، ينتفع بنوره أبناء البشرية جمعاء.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهْتَدَي بها في ظلمات البر والبحر”.
وقال الإمام الباقر عليه السلام: “العالم كمن معه شمعة تضيء للناس، فكل من أبصر شمعته دعا له بخير، كذلك العالم معه شمعة يزيل بها ظلمة الجهل والحيرة”.
ولد المرجع المرحوم في عام في 19 جماد الآخر 1337هـ الموافق 1 فبراير 1919م، من أبٍ علّامة وأم شاعرة موالية لأهل البيت عليهم السلام.
تمسك بدراسة العلوم الدينية في وقت كان محاربة العلماء على أشده، فتحمل الأذى والصعوبات في سبيل الله صابراً، وتحمل ممارسات الشاه المقبور رضا شاه، وملاحقة جلاوزته لطلاب العلوم وللمتزيين بزيهم بشتى الاعذار والحجج الواهية، وحافظ على طلب العلم و التزامه بزيهم في تلك الظروف غير عابيء بالصعوبات والملاحقات.
أخذ المقدمات والعلوم الأولية من الأديب البارع الشيخ أبو القاسم المشتهر بالقطب، حيث قرأ عليه الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان والبديع، كما أنه قرأ عند والده العلامة الشيخ محمد جواد الصافي القوانين والفرائد، والمكاسب والكفاية، وذلك في مسقط رأسه في “جرفادقان”، في عصر كان تحصيل العلوم الإسلامية والإنخراط في سلك رجال الدين أمراً صعباً للغاية، بالنظر للمضايقات التي كانت تمارسها حكومة الطاغية (بهلوي) المقبور، وما كان يقوم به زبانيته من ملاحقة لطلاب العلوم الإسلامية.
إلا أن مرجعنا الراحل اختار هذا الطريق بطوع رغبته، ومضى فيه دون أن يعبأ بالمتاعب والمشكلات، واستمر في تحصيل العلوم الإسلامية المباركة، كما أنه تزي بزي أهل العلم في تلك الظروف غير عابئ بالصعوبات.
وفي عام 1360ه انتقل لتكميل دراساته الإسلامية العليا بالحوزة العلمية التي أسسها في مدينة قم المقدسة المجاهد العظيم فقيد الأمة المرجع الراحل الشيخ عبد الكريم الحائري عام 1340ه، فحضر أبحاث أصحاب السماحة الآيات العظام: السيد محمد تقي الخوانساري المتوفى عام 1371ه، والسيد محمد الحجة الكوهكمري المتوفى عام 1372ه، والسيد صدر الدين العاملي المتوفى عام 1373ه، والسيد محمد رضا الگلبايگاني المتوفي ١٤١٤هـ، والمرجع آقا حسين البروجردي المتوفى عام 1380ه، والذي كان أكثر دراسته على يديه حيث استفاد من أبحاثه ما لم يستفده من سواه، فقد حضر أبحاثه مدة ١٧ عاماً، وتلقى منه بحوثا قيمة، في علم الفقه والأصول على مستوى الخارج، وكان يحظى لدى الإمام البروجردي بمكانة خاصة، حتى أنه كان يشترك في مجالس استفتاءاته، ويناط به رحمه الله مهمة حل الكثير من المسائل الفقهية والعقيدية الوافدة من مختلف الأنحاء والأصقاع، ومن هنا تبلورت مواهبه وقابلياته تحت رعاية الإمام المحقق البروجردي قدس الله روحه الشريفة.
ثم إنه هاجر – أثناء دراسته في قم – إلى النجف الأشرف عام 1364هـ وحضر في حوزتها الإسلامية العريقة، أبحاث: العلامة الشيخ محمد كاظم الشيرازي المتوفى عام 1367ه، والعلامة السيد جمال الگلبايگاني المتوفى عام 1377ه، والعلامة الشيخ محمد علي الكاظمي المتوفى عام 1364ه.
كما حصل على إجازة الرواية والحديث من خاتمة المجيزين المعاصرين، العلامة المتتبع، الشيخ آقا بزرگ الطهراني، والعلامة الشيخ محمد صالح السمناني، ومن والده الجليل رحمهم الله.
ثم غادر النجف الأشرف عائداً إلى بلاده، وقد كان العلامة الراحل الشيخ محمد كاظم الشيرازي، مصراً على أن يقيم سماحته في حوزة النجف عندما شعر بأنه ينوي الرحيل إلى إيران، إلا أن بعض الأسباب والعلل دفعت به إلى أن يغادر النجف إلى إيران وسكن حوزة قم المشرفة، مواصلا جهوده العلمية، ومتابعا حركته الفكرية بجد كبير.
دوره في الشأن العام
إطلع بدور كبير جداً في ترسيخ أسس الجمهورية الإسلامية وإقرار دستورها الإسلامي في بداية انتصار الثورة الإسلامية، وشارك في مجلس الخبراء في دورته الأولى، وشارك في رئاسة مجلس صيانة الدستور لمدة أربع او خمس سنوات، وكان قريبا جداً من الناس وقريباً من همومهم وشؤونهم، ومدافعاً عنهم بكل ما يملك من قوة وإمكانيات.
مؤلفاته
للمرحوم المرجع الراحل الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني اكثر من 70 مؤلفاً في مختلف حقول المعارف الفقهية والعقائدية والمهدوية ورد الشبهات، هو – دام ظله – متخصص في بعض العلوم الإسلامية ومشارك في بعض آخر، وأفضل دليل على ذلك كتاباته القيمة ومؤلفاته العلمية الثمينة التي نشير إلى طائفة منها في هذه اللمحة العابرة على سبيل المثال لا الحصر:
1 – منتخب الأثر في أحوال الإمام الثاني عشر وهو الكتاب الذي طبع عدة مرات، وقد قال عنه العلامة المحقق الشيخ آقا بزرگ الطهراني في رسالة إلى المؤلف بأنه لم ير كتاباً في الجامعية نظيره.
كما وكتب عنه العالم الراحل الشيخ حبيب المهاجر العاملي في كتابه (الإسلام في علومه وفنونه) كلاماً مفصلاً قال فيه: (ولا ينبغي لمؤمن إلا أن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب).
ولم تقتصر الإشادة به على علماء الشيعة بل وأشاد به جملة من علماء السنة، وبعض المستشرقين أيضاً، ولذلك أصبح هذا الكتاب مرجعا ومصدراً لكل من أراد الكتابة حول الإمام المهدي المنتظر صلوات الله عليه وعلى آبائه الطيبين.
والسر في كل ذلك أن المؤلف الجليل جمع فيه كل ما ورد من الأحاديث والروايات حول الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وبوبه أحسن تبويب، ونسقه أحسن تنسيق، وأشار في نهاية كل باب ما يمكن أن يكون شاهدا لهذا الباب مما جاء في الأبواب الأخرى.
2 – مع الخطيب في خطوطه العريضة ومحب الدين الخطيب الذي يتعرض هذا الكتاب للرد على ما نشره في كتابه (الخطوط العريضة) هو من النواصب المعاصرين الذين لم يكتموا بغضهم وعداءهم لآل الرسول صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فقد سعى الخطيب هذا، في تفنيد كل ما ورد حول فضائل أهل البيت النبوي الطيبين في كتب أهل السنة، وإنكاره ورده.
ولم يقتصر على هذا بل أظهر بغضه الدفين، وحقده المشؤوم على أهل البيت النبوي في سعيه الحثيث لإحياء ونشر ما ألفه بعض النواصب من القدامى في الإيقاع بالشيعة التابعين لأهل البيت النبوي، وقادتهم من آل الرسول صلى الله عليه وعليهم، ومن ذلك تعليقه على كتاب (العواصم من القواصم)!
ولا غرابة (فكل إناء بالذي فيه ينضح)، كما لا غرو أن يصدر كل ذلك في هذا العصر عصر العلم والتفتح العلمي ما دامت هناك حكومات وأنظمة تجد بقاءها واستمرارها في إيجاد الفرقة بين طوائف المسلمين، وانقسام الأمة الواحدة إلى شعوب متنازعة بدل أن تكون متعارفة متعاطفة، ومن هذه الحكومات (آل سعود) الذي كانوا ولا يزالوا يستأجرون أقلاماً لتأليب السنة على الشيعة، وإثارة مشاعر الشيعة ضد السنة، وإذا بهذه الأقلام المأجورة تقدح في الرجال الطاهرين من أئمة المسلمين من أبناء الرسول، بينما تمجد بالسكيرين والفاسقين أمثال يزيد بن معاوية، والوليد بن عبد الملك، والملوك والسلاطين المعاصرين الذين حذوا حذوهم واقتفوا أثرهم.
وقد كان كتاب (الخطوط العريضة) لمحب الدين هذا من جملة تلك الأوراق المسمومة، والصحائف الصفراء التي قامت الحكومة السعودية الجائرة بطبعها ونشرها وترويجها، وهو الكتاب الذي ألصق فيه (الخطيب الحاقد) تهماً كثيرةً بالشيعة، وسعى في تشويه سمعتهم الناصعة بهدف إيجاد الشقاق والفرقة بين المسلمين، وطبع هذا الكتاب على نفقة آل سعود، وقاموا بتوزيعه على الحجيج مجاناً، تحقيقاً لأهداف الإستعمار البغيض الذي لا تروقه وحدة الصف الإسلامي وتماسكه، لذلك وقد تصدى مرجعنا الراحل – انتصاراً للحق ودفاعاً عن الحقيقة – بالرد الموضوعي الهادئ والعلمي على هذا الكتاب.
3 – جلاء البصر لمن يتولى الأئمة الاثني عشر، وقد قام المؤلف في هذا الكتاب بتوضيح وإثبات أن عدد الأئمة اثنا عشر، لا ثلاث عشر، وقام بتقييم سنده ومتنه، وقد طبع أيضا.
4 – صوت الحق ودعوة الصدق وقصة هذا الكتاب هي أنه بعد أن انتشر كتابه (مع الخطيب في خطوطه العريضة) الذي كان ردا على افتراءاته للشيعة، وتوضيحا لما ارتكبه الخطيب من جنايات على الإسلام والمسلمين عامة، وعلى الشيعة والتشيع خاصة، أو عزت السلطات السعوديةإلى أحد اللاهوريين باسم (إحسان اللهي ظهير) بأن يكتب رداً قاسياً على ما كتبه المرجع الگلبايگاني، وينتصر للخطيب ويؤيد افتراءاته، وقد سمى كتابه (الشيعة والسنة) وأعلن فيه بقوة بأن الشيعة والسنة لا يمكن ان يتحدا، وجاء الكتاب ليكون نعرة جديدة من نعرات الخلاف والشقاق، فقام المرحوم بتأليف كتاب آخر باسم (صوت الحق ودعوة الصدق) استعرض فيه ما ارتكبه المؤلف الثاني من أخطاء.
وكان لهذا الكتاب وقع جيد، حيث كتب أحد الأفاضل من الجيزة بمصر عنه في رسالة تقدير يقول مخاطبا سماحة المؤلف دام بقاه: (طالعت كتابكم الكريم الموسوم (صوت الحق، ودعوة الصدق) وهو يسفر عن غيرتكم الصادقة، وحرصكم الشديد على سلامة الدين ووحدة المسلمين، ولم شعثهم وقوة شوكتهم، ليكونوا درعا حصينا وجنة وثيقة لمكافحة كل ما يتهدد سلامة مبدئهم، ويؤول إلى تفريق جمعهم.
سيدنا الأستاذ يذكر بعض مزايا المرحوم
قال عنه سيدنا الاستاذ آية الله العظمى المدرسي حفظه الله تعالى:
“نعزي سيدنا الامام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف بوفاة عالم رباني كبير آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني الذي قضى أكثر من ثمانين عاما من عمره الشريف من أحل ترسيخ الحقائق الدينية، أذكر منها ثلاثا:
– دأبه الشديد على تصفية الحوزة العلمية من الثقافات الدخيلة عليها وقد نجح في ذلك، وكان يعارض بين أن يخلط طالب العلوم الدينية بين الفلسفة والأيات الدينية وروايات أهل البيت عليهم السلام في المدارس التابعة له.
– في آخر حياته كان يطلب من الجمهورية الاسلامية بإنصاف الجماهير المؤمنة واسترداد حقوقهم من الآخرين بطريقة لبقة، وبالرغم من تعرض لضغوط من قبل البعض إلا أنه أخيراً يبدو أن الجمهورية استجابت لطلباته.
وكان دأبه الحضور في الساحة الدينية كما هو في الساحة السياسية وكان عضو في مجلس الخبراء وله دور فعال ورئيسي في ترسيم نظام الجمهورية الاسلامية وإقرار دستورها الرسمي المتبع اليوم.
– كان شديد الإهتمام بالحوزة العلمية في كربلاء ورجال هذه الحوزة مثل الشيخ عبدالرحيم القمي الذي اثنى عليه وعلى مدارس كربلاء، وكان يجيز إنشاء مدارس دينية في كربلاء بأموال الخمس لكن عبر مراجع الدين هناك.
هكذا هم علماؤنا الأبرار الفقهاء الأخيار
وهذا بعض نتاج الحوزات العلمية التي تخرج لنا أمثال هؤلاء العلماء الأفذاذ المتميزين في العلم والعمل والزهد والتصدي للقضايا العامة والظلم والإنحراف دون مبالات للظروف القاسية فحافظوا على استقلال العلم والحوازات والدفاع عن نواميس الدين والأمة..
رحم الله الفقيد الكبير آية الله العظمى المرحوم الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جنانه مع محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ورحم الله من يقرأ لروحه الطاهرة وأرواح مراجعنا الماضين والعلماء والشهداء والصديقين والمؤمنين سورة المباركة الفاتحة والإخلاص مع الصلوات.
- عالم دين من البحرين