استشهد الإمام العاشر علي الهادي، عليه السلام،في /3 / رجب سنة /254 هـ/ في سامراء
مقدمة ضرورية
تاريخ وسيرة أئمة أهل البيت الأطهار، عليه السلام، هو التاريخ الناصع، والمشرِّف للبشرية، لأنه يُعطي الصورة المثالية لإنسان الله، وخليفته في خلقه، ولا غرو في ذلك لأنهم أولياء الله وأحباءه، وأمناءه على دينه وكتابه ورسالته التي تُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.
ومن تلك القمم الشَّاهقة، والشخصيات النورانية السَّامقة، الإمام علي بن محمد الهادي، عليه السلام، الذي ظلمته الأمة بالإهمال، والتاريخ بالإغفال، والسياسة بالقتال، فهو الذي ولد واستشهد في رجب الأصب، وتسنَّم كرسي الولاية والإمامة وهو في عمر الثامنة، أي أنه كان كأبيه محمد بن علي الجواد، عليه السلام، معجزة الإمامة فعلاً، ولكن استطاع قيادة الأمة لمدة تزيد عن 34 عاماً كانت من أشد فترات التاريخ على أئمة أهل البيت، عليه السلام، من حيث الظلم من الحكم العباسي الطاغي.
من أهم الضرورات التي أدَّت بالإمام الهادي لتشكيل هذا النظام الإداري الراقي، هو ضرورة قيادة الأمة سياسياً ولو بالحدِّ الأدنى من التواصل بين الإمام والأمة
ولذا كان الإمام علي الهادي، عليه السلام، مبدعاً في كثير من الجوانب الإدارية، ومنها ما نُريد أن نطرحه في هذه الكلمات، لنُسلِّط الضَّوء عليها، ونُبيِّن كم لها أثر في التاريخ الإسلامي عامة، والإيماني خاصة، فهي النظام المعمول به إلى اليوم في هذه الطائفة المحقة، منذ أن أبدعه وأسسه الإمام الهادي، عليه السلام، بسبب ظروفه القاهرة، في ظل الحكومة العباسية الجائرة.
نظام الوكالة والوكلاء
في الحقيقة التاريخية هناك كانت تباشير من أئمة أهل البيت، عليه السلام، قبل زمن الإمام الهادي، عليه السلام، ولكن كان نظاماً علمياً ولم يأخذ طابعاً إدارياً رسمياً وفاعلاً ومنظَّماً إلا في زمن وعمل الإمام الهادي، عليه السلام، فالإمام الباقر، والصادق، عليها السلام، كان لهما قصب السَّبق في تكوين وتنظيم الحوزة العلمية، ووضع نظام للتدريس والتعليم وبالتالي تخريج العلماء، والفُضلاء من كل نواحي العلوم المطلوبة في ذلك الزمن وأوجد الإمام الصادق، عليه السلام، حتى التخصصات العلمية الدَّقيقة.
فكان تلاميذ، وفقهاء، ومحدثين، ومتكلمين، ورواة ثقات، كان يُشير إليهم الأئمة، عليه السلام،بأنهم مأمونين على الدُّنيا والدِّين، وقالوا: خذوا عنهم أديانكم، وأحكامكم، واجعلوهم حكاماً في فضِّ الخصومات بينكم، كهشام، وابن أبي عمير، ويونس بن عبد الرحمن، وزرارة وغيرهم كثير ولكن لم يكن يُطلق عليهم اسم الوكلاء المعتمدين من قبل الإمام، عليه السلام،، وكان لهذا النظام عدد من الضرورات الدِّينية، والدنيوية، والاجتماعية نذكر منها:
- ضرورة أمنية
ولذا يُنسب هذا الإبداع الإداري للإمام الهادي، عليه السلام،لأن الأئمة من آبائه، عليه السلام، لم يكونوا بحاجة لهذا النظام، فهم كانوا يعيشون بين الناس والأمة يمكن لها أن تتصل بهم، وتتواصل معهم، وتأخذ منهم وتُعطيهم ولكن هذا الأمر كان متعذِّراً في حياة الإمام الهادي، عليه السلام، لا سيما بعد أن أخذه بني العباس ووضعوه في السجن المغلق أو المفتوح في مدينة العسكر سامراء، فهو على أحسن الأحوال كان فرض الإقامة الجبرية كما نسميه في هذا العصر، ولذا كان عليه أن يذهب في كل يوم وربما أكثر من مرة إلى ديوان السلطات حتى يُثبت وجوده لأنه كان عليه تفقد دائم، وهذا الحصار فرض إيجاد وسيلة للتواصل والتفاعل بين الإمام والأمة.
- ضرورة سياسية
من أهم الضرورات التي أدَّت بالإمام الهادي لتشكيل هذا النظام الإداري الراقي، هو ضرورة قيادة الأمة سياسياً ولو بالحدِّ الأدنى من التواصل بين الإمام والأمة، لأخذ الحقوق وتطهير الأموال والأنفس، وإيصال الأحكام الشَّرعية للناس ليعلموا حدود ما أنزل الله والحلال والحرام، وهذا لا يمكن في ظل ظروف القهر، والمنع، والتضييق على الإمام، عليه السلام، في مدينة الجند سامراء، فكان لا بد من إيجاد الوسيلة، وتكون مأمونة، ومضمونة فكان نظام الوكالة، واتخاذ الوكلاء الخاصين من قبل الإمام، عليه السلام، .
- ضرورة اجتماعية
الأمة بلا إمام يقودها، ويرعى شأنها تنفرط ولا تبقى أمة أصلاً، وتتحوَّل إلى تجمع، أو حزب، أو شعب يعيش في مكان وزمان معين، فالأمة بالإمام وجوداً وتواصلاً وتفاعلاً، والطائفة المحقة، كانت في زمن الإمام الجواد وولده الإمام الهادي، عليهما السلام، أمة ممتحنة بنفسها بالواقفية، والغلاة، وخروج بعض الشخصيات البارزة فيها إلى غيرها، فكانت فيها اهتزازات قوية تُشبه الزلزال فعلاً فكان لا بدَّ من التواصل مع القيادة الحقيقية لمعرفة الحق والحقيقة الواقعية، ولا يمكن ذلك لكل أحد بسبب الظروف الأمنية للحكومة العباسية التي حاولت جهدها وجهادها أن تُبعد الإمام، عليه السلام،عن قواعده الشعبية، ليحدث هذا الانقطاع بينهما ولذا كان هذا الإبداع الإداري للإمام الهادي، عليه السلام،ليُفوِّت الفرصة على بني العباس ويتم التواصل، وتتحقق الرسالة من وجوده المبارك.
- ضرورة مستقبلة
وهذه الضرورة كان لها الأثر الواضح لربط الأمة بنظام الإمامة والولاية وليس بشخص الإمام المبارك، لعلم الإمام باقتراب موعد الغيبة الصغرى، ثم الكبرى، فكان إذا لم يوجد مثل هذا النظام لربط، وضبط حركة هذه الطائفة المحقة، وهؤلاء الكرام من الشيعة، لضاعوا، وتاهوا، وذابوا في غيرهم بمجرَّد غاب عنهم إمامهم المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، فكان هذا الإبداع من الإمام لبيان، وتوضيح، وترسيخ مسألة الإمامة، كمؤسسة، ونظام عام يربط الجميع بالعنوان وليس بالأشخاص، لأن شخص الإمام، عليه السلام، سيكون غائباً بعد سنوات قليلة من حياته لا تتجاوز الست سنوات، حيث ستكون غيبة حفيده الحجة بن الحسن، حتميَّة فكيف سترتبط به الأمة لكي لا ينفرط عقدها الثمين، ورباطها الأمين، وتؤدِّي رسالتها في العالمين، لأنها خلاصة البشرية، وقادتها في مستقبل الأيام، وغابر الأزمان؟
بلورة نظام الوكالة
فظروف التشديد، والحصار، والتضييق الذي مارسه حكام بني العباس على الأئمة والشيعة في أواخر عصر الحضور للأئمة، عليه السلام، كان يُحتِّم إيجاد مثل هذا النظام وضبطه بدقة، وإحكامه بشدة، لحفظ أتباع هذ المدرسة المباركة الملتزمين بمنهج أهل البيت، عليه السلام، فعمل الإمام الهادي، عليه السلام، على بلورة هذا النظام في واقع الأمة، فاتّخذ الوكلاء، وأسيس شبكة راقية من الممثلين الشخصيين له، في كل البلدان التي يقطنها الشيعة، كالعراق، وإيران، ومصر، واليمن.
الأمة بلا إمام يقودها، ويرعى شأنها تنفرط ولا تبقى أمة أصلاً، وتتحوَّل إلى تجمع، أو حزب، أو شعب يعيش في مكان وزمان معين، فالأمة بالإمام وجوداً وتواصلاً وتفاعلاً
حيث عمد إلى تعيين وكلاء يوثّقهم، ويمدحهم، ويُشير إليهم ليكونوا الواسطة بينه وبين الشيعة في التواصل الديني، والمعرفي والإجابة على المشكلات العلمية الكلامية والفقهية والتفسيرية وغيرها، واستلام الحقوق الشرعية، وإيصالها إلى الإمام، عليه السلام، كالشاه عبد العظيم الحسني، وعثمان بن سعيد، وإبراهيم بن مهزيار، وعلي بن جعفر الهمَّاني، وحسين بن عبد ربّه، وأحمد بن إسحاق الرازي ربما آخر الوكلاء.
وبالتالي تمَّ ربط الشيعة الكرام بالإمام الحاضر، وتوجيههم إلى ضرورة الارتباط بالإمامة كنظام إلهي كالرسالة تماماً، فيجب أن يؤمن الجميع ويتمحور حول الإمامة سواء حضر الإمام، أو غاب عنهم، وهذا ما تحقق من نظام الوكالة حيث تبلور هذا النظام الإداري الراقي في عدة مسائل أهمها:
1- بلورة هذا النظام بالسفراء الأربعة؛ في عصر الغيبة الصغرى، فلولا نظام الوكالة لما نجح نظام السفارة في الغيبة الصغرى التي امتدت لحوالي سبعين عاماً.
2- بلورة الغيبة الصغرى بالعلماء الربانيين؛ العاملين في الغيبة الكبرى، وهم المراجع الكرام الذين وصفهم الإمام العسكري، عليه السلام، بقوله: “مَنْ كَانَ مِنَ اَلْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلاَهُ فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ“، فهؤلاء العلماء حافظوا على الخط والمنهج فعلاً.
3- بلورة الغيبة الكبرى بالحوزة العلمية الشريفة، لضمان حضور هذا النظام في حياة الأمة إلى يوم الظهور المقدس لصاحب الأمر الحجة بن الحسن، عجل الله فرجه، ولولا ذلك لما بقيت هذه الأمة، وهذه الطائفة المحقة، لأنها من أكثر الطوائف التي تعرَّضت لحروب الإبادة الجماعية منذ كربلاء الإمام الحسين، عليه السلام، ومأساته الخالدة وحتى عصرنا هذا الذي نعيشه ونصطلي بكل هذه الحروب علينا، ونعاني من هذه العداوات التي لا نعلم أسبابها إلا أننا آمنا بالله العلي الحميد، واتبعنا أئمتنا وسادتنا من آل محمد، صلوات الله عليهم، وقدمنا بحاراً من الدماء الطاهرة الزكية على مذابح الحرية والكرامة الإنسانية على طول المدى، ونرى العداوة ولا نرى أسبابها.
وأخيراً
ما أحوجنا لمعرفة تاريخنا، وسيرة أئمتنا الكرام، عليه السلام، الذين علمونا الإبداع في كل شيء، وما أجدر بنا أن ننهض على اسم الله في هذا الوقت الذي تداعت فيه كل الأمم علينا بقيادة إمبراطورية الشر العالمي، وما أنقذنا إلا ذاك النظام الراقي الذي أنشأه الإمام الهادي، عليه السلام،حيث المرجعية المباركة، والحوزة العلمية الشريفة، وهل أنقذ العراق والمنطقة إلا هما؟
فمراجعنا وحوزتنا موئلنا وكهفنا الحصين الذي حفظ الأمة وصان العرض، ودافع عن الوطن والأرض، ألا يجب أن نلتفَّ حول هذا النظام الراقي الذي أسسه الإمام علي الهادي، عليه السلام،منذ قرون خلت؟
السلام على الإمام علي الهادي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث شهيداً وشاهدا..