وفق الرؤية السياسية فان “الأمر الواقع” وسيلة للتنفيذ، بينما وفق الرؤية الاسلامية (الدينية) يستحيل مرآة تنعكس عليه القيم والمبادئ فيكون “واقعاً اسلامياً”، يحمل مظاهر الأخلاق، والورع، والفضيلة، والانسانية.
وعندما نتحدث عن التحركات لتشكيل الحكومة العراقية في اعقاب الانتخابات البرلمانية إنما نتحدث عن واقع سياسي، وليس واقعاً دينياً، ولا واقعاً شيعياً حتى نأمل انضمام جميع الكتل الشيعية تحت خيمة واحدة لتشكيل الحكومة التزاماً بمبدأ “الديمقراطية التوافقية” التي عرفها العراق منذ الاطاحة بنظام صدام.
شيعة العراق؛ بعلمائهم، ومثقفيهم، وجمهورهم يدعون الى تمثيل سياسي واسع وكبير في الدولة العراقية انطلاقاً من مبدأ الأكثرية، بيد أن نتائج الانتخابات البرلمانية الاخيرة أفرزت واقعاً جديداً علينا أخذه بنظر الاعتبار وهو ظهور اصطفافات جديدة داخل المكون الشيعي يدعو أحدهم الى تغيير “الواقع الفاسد”، ولو بشكل شعاراتي، بينما يصرّ الطرف الآخر الى تكريس “الواقع السياسي الشيعي” ليبقى هو من يقود معركة الإصلاح ومكافحة الفساد استناداً الى إرث ثقافي وحضاري كبير.
إن رفض التيار الصدري دخول تحالف دولة القانون في خيمة التشاور الشيعي لتشكيل الحكومة، تمثل رؤية سياسية اكثر مما هي رؤية دينية ـ شيعية ـ
بيد أن هذا التمني تحول الى فقاعات طوال السنوات الماضية عندما لمس الناس، وتحديداً جمهور المكون الشيعي في الدولة، حجم الفساد المهول بعشرات المليارات الذي تصدر مراتب الفساد لدى المكونات الاخرى في النظام السياسي القائم بالعراق، وهو الشعور العارم بالخيبة واليأس الذي دفع بشريحة واشعة من الشيعة لمقاطعة الانتخابات، بينما التزم جمهور التيار الصدري بآماله المعقودة على قادته بتغيير هذا الواقع الفاسد، وكانت مشاركته أكثر سعة وتنظيماً.
إن رفض التيار الصدري دخول تحالف دولة القانون في خيمة التشاور الشيعي لتشكيل الحكومة، تمثل رؤية سياسية اكثر مما هي رؤية دينية ـ شيعية ـ فقد أعلن التيار عدة مرات موافقته لتشكيل تحالف شيعي داخل البرلمان مع الإطار التنسيقي الذي يضم الكتل الشيعية ومن بينها دولة القانون.
مناقشة الوضع القائم يسلط الضوء على رفض التيار الصدري لانضمام دولة القانون، ولا يناقش إصرار دولة القانون على المشاركة في الحكم، فبدلاً من ان يتحول هذا الرفض الى مادة إعلامية وحتى على سوشيال ميديا (وسائل التواصل الاجتماعي) كان من الحَسَن على قادة دولة القانون الانسحاب بهدوء من المنازلة تاركين الساحة للآخرين، ومفضلين جبهة المعارضة على الحكم، ليكونوا قدموا مصداقية حقيقية للحرص على المذهب، وايضاً على سلامة “الواقع الاسلامي الشيعي” في العراق من التصدّع والتشضّي كالذي يحصل اليوم، فمن أبرز المآلات الخطيرة من الصراع المستميت على الحكم، وقوع الشيعة في الزاوية الحرجة وليس هذه الجهة السياسية أو تلك.
فبعد التراجع المحزن بالمشاركة في الانتخابات، تحولوا الى نقطة ضعف في الخارطة السياسية امام قوة الكُرد، وقوة السنّة، وهذه هي المرة الاولى التي يواجهوا فيها هكذا مآل منذ سنوات من توليهم الحكم، ومنصب رئاسة الوزراء.
هذا المآل الخطير لا يحول دون ظهور مآل أخطر منه في قادم الأيام عندما يتحول الاصطفاف داخل البيت الشيعي الى تخندق سياسي يتبادل الاتهامات والتشكيكات وحتى التخوين، مما يستتبع ردود فعل سلبية تنعكس سريعاً على الشارع، و ليكون الشيعة في هذه النقطة تحديداً مصدراً لخلق الأزمات والمصادمات على مرأى ومسمع من العالم بأسره.
العقلاء والحكماء من الشيعة مدعوون اليوم للعمل بجد واهتمام وتركيز على مسألة المصير بالتسديد والتقويم
العقلاء والحكماء من الشيعة مدعوون اليوم للعمل بجد واهتمام وتركيز على مسألة المصير بالتسديد والتقويم، فالتيار الصدري يحمل لواء الإصلاح، وأنه قادم بالعدد الأكبر من المقاعد في البرلمان لتشكيل الحكومة وتحقيق التغيير المأمول، بغض النظر عن مدى مصداقية هذا الإعلان، ونسبة النجاح، واحتمالات الفشل، فكل شيء وارد، وهو بهذا الاعلان يريد القول؛ انه ليس كالآخرين المسببين للفساد والمعاناة.
بمعنى أنه تحول الى الجدار الاخير للشيعة في تجربته بالحكم، فأي فشل في هذه التجربة الاخيرة، او تعرضها الى تصدّعات بسبب المناوشات في أروقة الحكم، وعلى صعيد الشارع، فانه لن يمثل فشلاً سياسياً بقدر ما يكون فشلاً حضارياً للشيعة أمام العالم، ومن ثمّ تصدق مقولة “عدم أهلية الشيعة للحكم” التي تم ترويجها منذ أن وضع رجال ثورة العشرين اسلحتهم أرضاً.
إن إنجاح التجربة السياسية الجديدة للشيعة في العراق لا يكون نجاحاً للتيار الصدري بقدر ما هو إنقاذاً من موقف حرج مدبّر له من قبل أطراف اقليمية ودولية يعيد شيعة العراق الى ما كان عليه قبل عام 2003 ولكن في ظل أجواء “ديمقراطية”.