أسوة حسنة

السَّيدَةُ أُمُّ البَنِين قُدوَةٌ فِي تَربِيَةِ البَنِين

توفيت السَّيدة أمّ البنين عليها السلام في (يوم الجمعة 13 جمادى الآخرة عام 64هـ)

مقدمة تربوية

الحديث عن التربية – في الحقيقة والواقع- هو حديث عن صناعة الإنسان، وصياغة شخصيته، كما يحب الصَّانع، والمربِّي، وفي الرِّسالات السَّماوية والدِّين الإسلامي يكون وفق منهاج السماء المتمثِّل بالقرآن الحكيم والعترة الطاهرة.

وخلاصة المنهج الرَّباني للتربية يتلخَّص بأروع المناهج المكتشفة حديثاً ألا وهو التربية بالقدوة الصَّالحة، والأسوة الحسنة، أي تُعطي المبادئ العلمية التربوية، ثم تجد تطبيقها عند القدوة التي اختارها الله سبحانه لعباده حيث، قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. (الأحزاب: 21).

 مقومات نجاح العملية التربوية

فالمتأمل المدقق، والباحث المحقق في المناهج التربوية الإسلامية يجدها متكاملة في صناعة الشخصية البشرية المتميزة، التي تتكوَّن عادة من الجسد الذي يتحكم به عوامل الوراثية للأبوين، والروح؛ وهي التي يؤثر فيها التربية البيتية، ومن ثم البيئية، لتنشئة أي شخصية من تلك الشخصيات المرموقة والتي يكون لها أثر واضح في المجتمع الإنساني على امتداد التاريخ، كتلك الشخصية الكبيرة التي نحن نُحاول أن نستكشف جوانب العظمة فيها، ونبحث عنها في نفسها كإنسانة كانت كآلاف غيرها من بنات جنسها، ولكن لم يكن لهنَّ ذكر في الذاكرين.

وفي أولئك الأبناء التي ربَّتهم فجعلت منهم منارات عالية، وقمم شاهقة في دنيا الإنسانية، ما زالوا يُنيرون الدُّروب ويهدون الأمم إلى الحق والصراط المستقيم، فكيف استطاعت تلك المرأة التي تربَّت في بيت مغمور، أن تجعل من نفسها مدرسة تربوية راقية، ومن أبنائها جامعات كُبرى لتربية البنين والبنات إذا ما انتهجوا منهجها، وساروا في طريقها الإسلامية الإيمانية الرائعة؟

فاطمة بنت حزام الكلابية

 يروي لنا التاريخ الظالم بعضاً من الروايات المختصرة، والمقتضبة عن هذه المرأة الطاهرة التي حملت اسم؛ فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية العامرية، وأمّها ثُمامة بنت سهل بن عامر، فهي من بيت عريق في البطولة والشجاعة، وليس في العرب أشجع من آبائها، كما هي ذات أصل كريم، ومن بيت من بيوت العرب المشهورة بحسب تعبير عقيل بن أبي طالب، رضوان الله عليه، الذي كان نسَّابة العرب في عصره، وعنه أخذ النسّابون، ولعظيم علمه ومعرفته جاءه أخوه أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، يستشيره ويستنصحه بامرأة ولدتها الفحولة، ليتزوجها وله غاية في ذلك.

 حيث قال له: “يا عقيل أُنظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً“، فقال له: تزوج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها). (عمدة الطالب ابن عنبة: ص٣٥٧).

  فهي فتاة أصيلة من بيت أصيل اختارها عقيل لتكون زوجة لأخيه أمير المؤمنين ، عليه السلام،وذلك بعد استشهاد سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، بسنوات، فخطبها له وتزوجها أمير المؤمنين، عليه السلام، ولكن رأى فيها خصال الخير، والنبوغ، والنجابة، والإيمان، والتقوى، والطهارة، بادية وواضحة لأنها ما أن دخلت إلى بيت أمير المؤمنين، عليه السلام، ،وفيه أبناء سيدة نساء العالمين، عليها السلام، فكانت أول ما طلبت منه، عليه السلام، أن لا يُسميها باسمها (فاطمة)، احتراماً لأبناء سيدتها فاطمة، عليه السلام، فأطلق عليها اسم “أم البنين”، وكانت تلك البادرة التي تُخبرك عن مدى عظمة التربية الإيمانية لها.

ومن ثم جعلت نفسها خادمة مطيعة لسادتها من أئمة المسلمين، عليهم السلام، وليست امرأة الأب التي يمكن أن تكون متكبِّرة، ومتغطرسة، ومتعالية على أبناء ضرَّتها، وهنا نلمح عظمة التضحية والإيثار بنفسها، وشخصيتها، وبشدَّة تواضعها لنجوم أهل الأرض، وسادتهم، من أبناء فاطمة الزهراء ، عليها السلام، فهي عرفت، وأدركت، وآمنت، واعتقدت، بهم فأقامتهم في مقاماتهم التي وضعهم الله فيها، ولم تنظر إلى نفسها إلا المرأة الموالية، والتابعة، والخادمة لهم، بكل إخلاص وتسليم.

فاطمة الكلابية مدرسة تربوية

الحديث عن المرتكزات الإيمانية والتربوية لشخصية السَّيدة أم البنين تحتاج إلى أبحاث خاصة وطويلة رغم ندرة المصادر، إلا أننا أمام تجربتها الفريدة في تربية أبنائها الشهداء الأربعة، في يوم عاشوراء حيث قدَّمتهم جميعاً على مذبح الكرامة والدِّين والحق فداء لأخيهم أبي عبد الله الحسين، عليها السلام، فكيف استطاعت تلك المرأة أن تُربِّي أولئك الأشبال الكرام لا سيما قمر العشيرة، سيدنا أبو الفضل ومجمع الفضائل؛ العباس بن علي ، عليه السلام،هذا الطَّود الشَّامخ الذي أذهل التاريخ، وأعجز العلماء والمؤرخين أن يجدوا مثيلاً له في كل صفاته النبيلة، وشيمه الكريمة، وفضائله العظيمة، وكأنه خُلق وتراً في العالمين.

ولنعرف عظمة تلك المدرسة التي حوتها، وشكلتها السيدة فاطمة بنت حزام في بيتها، يكفينا أن نعرف أن أمير المؤمنين ، عليه السلام،تزوَّج العديد من النساء بعد فاطمة الزهراء، عليها السلام، وأنجب أكثر من ثلاثين ولداً ذكوراً وإناثاً، ولكن لم يكن بينهم مثل أبناء هذه السيِّدة الجليلة، وهناك مَنْ هم أكبر منهم سناً كمحمد بن الحنفية وغيره من أخوته.

فكان أبناء السيدة أم البنين مميَّزين جميعاً بكل معنى الكلمة، وكان أميزهم أكبرهم أبو الفضل العباس، عليه السلام، الذي جمع صفات الآباء من بني هاشم الأكارم، والخؤولة من بني عامر، فجاء آية من آيات العظمة في البطولة، والفحولة، والرجولة، والشجاعة، بحيث كان يركب الفرس المطهَّم فتخطُّ رجلاه على الأرض، ومن ألقابه (قمر العشيرة)، و(قمر بني هاشم) الأقمار الزُّهر في العرب وقريش.

وكان لها أربعة أشبال وبنت واحدة ولكن من خلالهم استطاعت بأصالتها، وإيمانها، أن تُعطينا أمثلة راقية جداً في التربية، والتنشئة الإسلامية والحضارية، فكم هو جميل أن ندرس ونُدقِّق في حياة هذه المرأة الطاهرة المضحية بكل شيء في سبيل الله ودينها وإيمانها وإمامها، لنستقي منها تلك الدُّروس التي يجب أن نُربِّي عليها أبنائنا وبناتنا لإعادة صياغة شبابنا الذين سرقتهم منا شياطين الإعلام والإعلان الفاسق الفاسد فأفسدتهم ورمتهم في صحراء خالية لا ماء فيها ولا خير فتركوا الدِّين وخرجوا منه إلى الإلحاد والضَّياع كما نراهم بأم العين.

أم البنين قدوة وأسوة

في هذا العصر الرقمي والحضارة الصفرية، فقدنا البوصلة لتربية الأبناء والبنات، لأننا تركنا مهمة التربية إلى غيرنا، فترانا نرسل أبناءنا منذ الرابعة إلى تلك المدارس التي تتَّبع المناهج الغربية فتُعلمهم الغناء، والرقص، والرسم، والألوان إلا الدِّين والقرآن إلا ما رحم ربي، فتركت الأسرة مهمتها إلى غيرها، وأولت الأم رسالتها إلى المربِيات المجهولات الذين جاؤوا بهم من خلف المحيطات إلى بلادنا وهن لا يعرفن شيء من قيمنا، وديننا، وعاداتنا وتقاليدنا وصرن يُربين الأبناء فأخرجوا لنا هذه الأجيال المستميتة للانبطاح والذل تحت أقدام الأعداء.

فما أحرانا وأجدر بنا أن نبحث عن أمثال تلك القمم التربوية الشاهقة كالسيدة أم البنين ، عليه السلام،الطاهرة التي ربَّت أبناءها حتى صاروا رجالاً ومفاخر من مفاخر العرب والمسلمين وقدَّمتهم للسيوف ليُقطَّعوا جميعاً، بكل عنفوان وشموخ، فداء للعقيدة والدِّين والإمام الحسن، عليه السلام، والعجيب أنها عندما جاءها الناعي “بشر بن حذلم” إلى المدينة لينعى الإمام الحسين، عليه السلام، لم تسأله عن أبنائها الأربعة، بل كانت تسأله عن سيدها الإمام الحسين، عليه السلام، فأي عظمة وتفاني كانت تعيشه تلك المرأة الصالحة تجاه دينها وعقيدتها وولايتها؟

ولذا كافأها الله سبحانه بأن جعلها باباً من أبواب الحوائج للناس فما من أحد استجار بها، ودعا الله بحقِّها إلا ولبَّت له دعوته، واستجاب الله استغاثته كرامة لتلك الإنسانة القدوة، والأسوة في نساء هذه الأمة، الظالمة لها، والمتجاهلة لسيرتها العطرة، والهاجرة لمدرستها التربوية الراقية.

في الحقيقة التاريخية؛ أن السيدة أم البنين الكلابية كانت قد تربَّت في بيت أهلها على الوفاء، والعطاء، والحياء، والنبل بأحلى مصاديقه، وعندما جاءت إلى بيت أمير المؤمنين ، عليه السلام،وأنجبت له الأبناء فربَّتهم على قيمها، وأضافت إليهم ما اكتسبته من مدرسة الإمامة والولاية من أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين، عليه السلام، فتكاملت شخصيتها، وصارت قدوة للمقتدين، وأسوة للمؤمنين في كل زمان ومكان، وما أحوجنا إليها في هذا الزمن لنربِّي أولادنا كما ربَّت أبناءها على تلك القيم الإيمانية الراقية.

فالسلام عليها وعلى أبنائها الشهداء أبد الدهر ومدار العصر.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا